Website counter

بحث هذه المدونة الإلكترونية

موقع خاص بالبحث في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية

الأربعاء، 22 يونيو 2016

مفهوم السلطة عند ابن تيمية: الحاكمية




2- الحاكمية 1:                      

تعني الحاكمية لغة: الحكم، فكان يقال حكمته أي منعته بالحكمة، وبالتالي فهو في أصله من الفقه والعدل. وتعني أصوليا التحليل والتحريم على خلفية الشريعة الإسلامية المبنية على القرآن وسنة الرسول، وتعني سياسيا تدبير شؤون الناس طبقا لتعاليم القرآن والسنة النبوية تحصينا من الفساد. أول استعمال لهذا المفهوم ظهر في معركة صفين الشهيرة بين جيش معاوية وجيش علي بن أبي طالب، حيث القول المشهور: الاحتكام لكتاب الله (القرآن). وحينما رفعت صحف القرآن طلبا للاحتكام كان قول علي: " هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق، ولكن يتكلم به الرجال "، والقصد أن القرآن فيه إمكانيات للتأويل، فلا يكون الأمر إلا بالسيف فصلا في الخلاف. وهذا يعني في النهاية، أن الاحتكام يصير إلى ما يؤول به في فهمه.

 بمعنى أن تفسير معاني القرآن تتعدد وتبقي الخلاف والنزاع، فيعود الأمر إلى السيف للفصل في النزاع. ومن هنا فإن الشريعة هي ما يكون من تفسير للقرآن. هذه المفارقة هي التي أوقعت الحركات السلفية في مأزق كلما دعت للحاكمية. فإن كانت هي الحكم بما شرع الله، وإن كان استنباط ذلك من القرآن، فإن الاختلاف سيكون حتما في ذلك، وبالتالي فعلى أي شريعة ستبنى الحاكمية؟ الحاكمية هي حكم الناس وتدبير حياتهم وفق الشريعة الإسلامية. ولما أن أحكام الشريعة تخضع للاجتهاد فإننا سنكون حتما أمام نظريات في الشريعة الإسلامية. وهذا يجعل المجتهدين ليس ضد بعضهم البعض، بسبب تعدد وتنوع وجه الاجتهاد. فإذا كانت الحاكمية هي الحكم طبقا لأحكام الله، وكانت هذه الأحكام متعددة بل ومتعارضة أيضا، فإن هذا يضع الكل ضد الكل.

 ومن ثمة يذهب كل مجتهد إلى فرض اجتهاده بالقوة والسيف. وهذا هو ما يفسر عجز الحركات السلفية التي تنطلق لزوما من ضرورة تطبيق الشريعة، أي حكم الله، من التوحد على وجهة واحدة، ويجعلها كذلك تتناحر وتكفر بعضها البعض، حيث نجد الكل يكفر الكل. هذا فضلا عن أن هذه الحركات كلها تكفر كل حكم يعمل بالقوانين الوضعية التي تعتبر من وجهة نظر أصحاب الحاكمية كفرا وخروجا عن الملة يستوجب الحد، أي القتل. فلا مؤسسات ولا برلمان ولا قضاة ولا أجهزة أمن ولا جيش ولا إدارات لتدبير الاقتصاد ولا دستور ولا انتخابات ولا ديموقراطية ... الخ. فكل ذلك كفر. ومن هنا ظهور عشرات من حركات الجهادية السلفية. وكل منها يجاهد وفقا لما يعتقده من وجهة نظره شرع الله ويرى الآخرين كفارا وجب قتلهم. يقول الشيخ عبد المنعم الشحات: " "نحن نرفض الديمقراطية ونرى أنها ليست هي الشورى الإسلامية، والشورى الإسلامية مقيدة بالوحي، فالمرجعية في الإسلام للوحي والشورى إنما تكون في كيفية تطبيقه، وأما "الديمقراطية" فالمرجعية فيها للشعب لا لأي شيء آخر، وإضافة قيد: "عدم مخالفة الشرع" للديمقراطية يجعلها شيئا آخر ليس هو الديمقراطية ولا هو الإسلام". ومعنى هذا أن كل ما هو وضعي تعاقدي كفر، لكونه مخالف للشريعة. ويتابع: " محاولة العدول عن وصف الولاية إلى وصف الوكالة؛ لتمرير ولاية المرأة والكافر لا يفيد، فكل الولايات وكالات عامة من حيثية قيام صاحبها بواجبات كفائية، وولايات من حيثية السلطات الممنوحة لصاحبها، فالإقرار بهذه الأفكار وغيرها من أجل المرور إلى المجالس النيابية ارتكاب لمنكر لدفع منكر يقوم به الغير، وهو ما لا يجوز بغض النظر أيهما أشد؛ لأنه لا يجوز أن أرتكب منكرا لكي أنهى غيري عن ارتكاب منكر، ولو كان المنكر موضوع الإنكار أشد؛ فكيف إذا كان العكس؟! وكيف إذا كانت وسائل إنكار المنكر الشرعية متاحة واحتمالات الاستجابة التي تؤدي إلى زوال المنكر متساوية؟!

يقول الشيخ عبد المنعم الشحات: "من سأل هذا السؤال هو من ينافس على جميع المقاعد وعنده أمل أن يأخذ الأغلبية، ويكون من ضمن خططه أنه إذا لم يحصل على الأغلبية ينسحب، فلن تكون الديمقراطية وسيلة لتطبيق الشرع إلا بالحصول على الأغلبية المطلقة".  وهو يقصد هنا أن من قبل بالمشاركة في الانتخابات إنما أمله هو الحصول على الأغلبية من أجل إحداث التغيير الكلي لأسلوب الديموقراطية، وإعادة بناء الدولة على أساس الحاكمية التي لا تعمل إلا وفق مبادئ الشريعة الإسلامية، أي المبادئ كما فهمها أصحابها على أنها هي الشريعة، وفي هذا سينازع حتى من عرض الشريعة الإسلامية وفق اجتهاد آخر للقرآن والسنة النبوية. ولهذا تتقاتل الحركات السلفية وتتمايز في حدتها وحدة استعمالها للقوة.

 يقول الشيخ محمد إسماعيل: "السيادة للقرآن لا للبرلمان": " فالأصل هو المسلمون والقرآن. فلا يكون المسلمون إلا إذا كان القرآن مصدرهم في الحياة. فتبقى المفارقة والنزاع: من هم الذين لهم حصرية الفصل فيما هو تطبيق القرآن. فتبقى الحرب مفتوحة ضد الكل. سواء من جاء باجتهاد ديني أو من جاء بالقوانين الوضعية. إن الحاكمية طبقا لما ذكر، تقع في مفارقة لا خروج منها حينما تريد أن تطابق بين الحاكمية بالمعنى السياسي والحكم بما أنزله الله. وهذا هو الشعار الذي رفعه الخوارج في معركة صفين: " لا حكم إلا لله ". هذا الشعار الذي عاد يطفو من جديد عند أبي الأعلى المودودي ثم السيد قطب في مصر، وهو الشعر نفسه الذي أدى إلى ظهور جماعات التكفير والهجرة والجهاد ثم القاعدة ثم داعش التي ذهبت إلى أقصى حد حينما فتحت حربا كونية من أجل إعادة نظام الخلافة كونيا عبر فتح الحرب على العالم بأسره. فداعش يعتقدون أن الحاكمية لن تتحق إلا إذا انتشر الإسلام في العالم كله تحت حكم خليفة واحد، تفترض داعش أنه هو من يمثل الإسلام الحقيقي. أما الآخرون أي كل من في الأرض فهم كفار يجب أن يسلموا أو يقتلون أو يدفعون الجزية ومهم صاغرون وأهل ذمة. ومن حاول منهم القتال فيؤسر ويقتل ويؤكل ويحرق ...الخ. (يتبع)

 

2- الحاكمية 2:

 ونورد هنا بعض الفتاوى التي تذهب إلى أقصى الحدود في التشدد والقتل. منها في رجل " يصلي يشوش على الصفوف التي حواليه بالنية وأنكروا عليه مرة ولم يرجع" (الفتاوى الكبرى ص1) وهذه الفتوى غير واردة تماما في المذاهب الأربعة المعروفة، في حين لم يجد ابن تيمية أي تردد في القول بها. ويقول عن تأخير الصلاة: " من أخر الصلاة لصناعة حتى تغيب الشمس وجب عقوبته، بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب" ص 366. وفي نازلة أخرى يقول: " في " رجل جار المسجد ولم يحضر مع الجماعة الصلاة" أجاب ابن تيمية: "يؤمر بالصلاة مع المسلمين فإن كان لا يصلي فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل" المجلد الأول الفتاوى الكبرى. ويقول في كتاب " السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ":  " أما قتل من أظهر الإسلام وأبطن كفراً منه وهو المنافق الذي يسميه الفقهاء الزنديق فأكثر الفقهاء على أنه يقتل وإن تاب "، وبذلك يصبح من الممكن اتهام أي شخص بأنه يبطن الكفر وبالتالي قتله، ذلك " أن قوام الدين بالمصحف والسيف"، و"يجب قتل تارك الصلاة إذا امتنع عن الصلاة بعد أن يستتاب... فإن تاب وصلى وإلا قتل" فالسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية هي مضمون الحاكمية، ذلك أنه يجب قتل من يقصر في أداء السنن في الصلاة وحج البيت الحرام والصيام والزكاة. ويقول: " كل من بلغته دعوة رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى دين الله فلم يستجب لها فإنه يجب قتاله" ص 109، فكل من علم بالإسلام حقت عليه أحكامه. وهذه هي الحاكمية كما ينبغي أن تكون كونيا، بما أن الرسالة كونية. ونجد هذا في أقوال السيد قطب في كتابه " معالم في الطريق" كما وجب على الإخوان المسلمين اتباعه، إذ يقول: " هذه اللفتة جديرة بأن يتدبرها الدعاة إلي الله فهي كفيلة بأن تريهم معالم الطريق واضحة بلا غبش ثم يكون قدر الله بدعوته وبهم ما يكون..  فلا يلتفتون في أثناء الطريق الدامي المفروش بالجماجم والأشلاء وبالعرق والدماء إلى نصر أو غلبة أو فيصل بين الحق والباطل" أي أنه أمام الإخوان طريق ضرورية لا ينبغي أن يحيدوا عنها مهما كان من القتل فيها والذبح وقطع الرؤوس. ويدعو كتاب (الحكم الجديرة بالإذاعة) تقديم وتعليق الشيخ ناصر الدين الألباني من يسميهم (بالمجاهدين) صراحة إلى السلب والنهب واستحلال الأموال والحرمات وسبي النساء من المسلمين المخالفين لهم تحت الزعم بأن ذلك كله هو رزق الله للمجاهدين)!! وهذا الكتاب هو أحد المراجع الفكرية للتنظيمات الإرهابية التي نقل عنها منظر الجماعات الإرهابية التائب عادل عبد الباقي نظريته في استحلال الحرمات كما ذكرنا.. فيقول في صفحة35 "إن رزق المؤمنين لا يتحقق بالسعي في طلب الدنيا والاجتهاد في أسبابها.. وإنما جعل الله رزقهم يتحقق بقتل أعدائهم الممتنعين عن قبول دعوة التوحيد واستباحة أموالهم وسبي نسائهم وذراريهم".. وفي نفس الاتجاه يقول الشيخ الحويني" لذلك أفتى علماءنا المعاصرون، وهذه ليست فتوى حديثة، إنها فتوى قديمة اتفق عليها أهل العلم، لكن أقول علماءنا المعاصرون لأن الصورة جديدة، أفتوا بعدم جواز دخول كلية الحقوق. دخول كلية الحقوق لا يجوز والحكم بالأحكام الوضعية حرام " أما لو كنا في كل سنة نقوم بغزوة مرتين أو ثلاث، أما كان ناس كثيرون في الأرض سيغتنون (مش لو كنا كل سنة عملين نغزو مرة واثنين ولا ثلاثة، مش كان سيثري ناس كثيرون في الأرض.) من يرفض هذه الدعوة ويحول بيننا وبين هذه الدعوة باسم الدين نقاتله ونأخذهم أسرى ونأخذ أموالهم وأولادهم ونسائهم. وكل هذه عبارة عن حلول، كل واحد مجاهد كان يرجع من الجهاد وهو مملوء الجيب ومعه حتما ثلاث نساء أو أربع وثلاث أو أربع صبيان ثمن كل واحد ثلاثمائة درهم أو دينار أو ما يقارب، فيرجع بمال كثير ما كان ليحصل عليه بنفس الكثرة طول حياته لو قام بصفقة تجارية (" جيبه مليان لازم معه ثلاث أو أربع نسوان وثلاث أو أربع اضرب كل رأس في ثلاثمائة درهم أو دينار ولا حاجة، راجع بمالية كويسة لو هو علشان يعمل صفقة تجارية عمره ما يعمل الأموال ذي". فهذه الخطبة تعبر عن نفسها بالنص والصوت، فهي تشير إلى العقيدة السلفية كما هي في كل قيمها، وإذا تأملنا ممارسات داعش، سنجدها تطبق حرفيا هذه القيم. فالحاكمية هي طريقة في الحكم السياسي مبنية على قاعدة أنها تطبيق للشريعة الإسلامية، حيث المبدأ الأساس هو " لا حكم إلا لله "، ومن ثمة " شرعية " من يحكم بها ويطبقها. ونجد في كتاب: " الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع " للشيخ شمس الدين محمد بن محمد الخطيب الشربيني (فصل في قسم الغنيمة)، قوله هذا: " وكفاية شره أن يزيل امتناعه، كأن يفقأ عينيه أو يقطع يديه ورجليه وكذا لو أسره أو قطع يديه أو رجليه وكذا قطع يدا أو رجلا فلو رمي من حصن أو من صف المسلمين أو قتل كافرا نائما أو أسيرا أما إذا كان الميت مسلما والمضطر كافرا فإنه لا يجوز منه لشرف الإسلام وحيث جوزنا أكل ميتة الآدمي لا يجوز طبخها ولا شيها لما في ذلك من هتك حرمته وتخير في أكله نيئا وغيره وله قتل المرتد وأكله ". وهذا بالضبط ما تفعله داعش.(يتبع)  

 وقد ورد هذا في أحد خطبه الحويني: كلامه في اليوتوب https://www.youtube.com/watch?v=rb4USffBsPA













مفهوم السلطة عند ابن تيمية:





1- ابن تيمية وإقامة الحد

مجموع فتاوى ابن تيمية الجزء الرابع والثلاثون (ص175:)

كتاب الحدود: قال شيخ الإسلام قدس الله روحه ... خاطب الله المؤمنين بالحدود والحقوق خطابا مطلقا كقوله : " والسارق والسارقة فاقطعوا " ( وقوله )"  الزانية والزاني فاجلدوا " لكن قد علم أن المخاطب بالفعل لا بد أن يكون قادرا عليه والعاجزون لا يجب عليهم وقد علم أن هذا فرض على الكفاية وهو مثل الجهاد؛ بل هو نوع من الجهاد. فقوله: "كتب عليكم القتال"  وقوله:" وقاتلوا في سبيل الله" هو فرض على الكفاية من القادرين و" القدرة " هي السلطان؛ فلهذا: وجب إقامة الحدود على ذي السلطان ونوابه. والسنة أن يكون للمسلمين إمام واحد والباقون نوابه فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها وعجز من الباقين ….  فكان لها عدة أئمة: لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود ويستوفي الحقوق؛ ولهذا قال العلماء إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل؛ وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزابا لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم ….؛ لكن طاعتهم للأمير الكبير ليست طاعة تامة؛ فإن ذلك أيضا إذا أسقط عنه إلزامهم بذلك لم يسقط عنهم القيام بذلك؛  بل عليهم أن يقيموا ذلك؛ …. وقول من قال: لا يقيم الحدود إلا السلطان ونوابه. إذا كانوا قادرين فاعلين بالعدل. كما يقول الفقهاء: الأمر إلى الحاكم إنما هو العادل القادر فإذا كان مضيعا لأموال اليتامى؛ أو عاجزا عنها: لم يجب تسليمها إليه مع إمكان حفظها بدونه وكذلك الأمير إذا كان مضيعا للحدود أو عاجزا عنها لم يجب تفويضها إليه مع إمكان إقامتها بدونه والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه. فمتى أمكن إقامتها من أمير لم يحتج إلى اثنين ومتى لم يقم إلا بعدد ومن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها فإنها من " باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه.

لن نجد بطبيعة الحال لدى ابن تيمية كلاما صريحا عن السلطة، ولكننا نجد عنده وصفا واضحا لكيفية تدبيرها، وهو ما يسمى لدى أهل السلفية " بالحاكمية ". فالحاكمية عندهم أكبر من أن تخصص لدى سلطة الأمير أو الحاكم، فلا حاكمية عندهم إلا لله، وهذا يعني أنها تشمل كل المؤمنين دون استثناء، كما هو واضح في هذا النص لابن تيمية. فإذا قمنا بتحليله، نجد كيف يفهم ابن تيمية ما يسمى اليوم بالسلطة، وكيف يدعو إلى ممارستها.

أولا ابن تيمية يخاطب كل المؤمنين دون تقييد أو حصر، من خلال قوله خاطب الله المؤمنين، ويستشهد في ذلك بالآيتين عن السارق والسارقة والزاني والزانية. وهو بذلك يضع نفسه فوق الأمير وغيره، مستقبلا لكلام الله منفذا له. أي منفذا لما يسميه الحدود والحقوق. ذلك أن ذلك حسبه فرض من الله على كل المسلمين دون استثناء. فيكون الحاكم أو الأمير، مقاما غير ملزم. ثم يقول إن تنفيذ الحد والحقوق واجب على كل من استطاع ذلك. والاستطاعة هنا تعني القدرة، أي القوة الفاعلة، كما في الحروب. " وقاتلوا في سبيل الله " عند ابن تيمية ليست محصورة بمقاتلة الغزاة في الحروب، بل هي تمتد إلى تطبيق الحدود في كل الأحوال التي تقتضيها أمور الفصل بين الرعية وتدبير شؤونها. فالسرقة أو الزنا هي تماما كالحرب مع الغزاة، دعوة من الله لكافة المسلمين أن يستجيبوا لها بالفعل، كلما استدعى الأمر ذلك، وهي واجب على كل من له القدرة أي القوة. أي أن المسلم القادر والقوي أداة الله في الأرض حسب ابن تيمية، تستجيب لأمر الله متى لزم الأمر: إنها جهاد. ولا يكون الأمير أميرا، أو الأمراء أمراء إلا بتطبيق الحد، وإلا سقطت الطاعة لديه، وجاز تنفيذ الحد لعموم المؤمنين حكما لله. ويعطي ابن تيمية مثال الأمير المضيع لحقوق اليتيم، فيجيز ويأمر بمخالفة الحاكم حفظا للحقوق وعدم تمكينه منها وتدبيرها وفق حكم الله كما يراه ابن تيمية، وكأنه أمر بديهي. فهو يقول: " قد علم (برفع العين) أن المخاطب لابد أن يكون قادرا". لذلك يقول السلف: " الحق بين " أي بديهي من خلال قول الله. كما أن الأمير أو الأمراء الذين لا يطبقون الحدود مسألة بديهية. فلا تأويل آخر لقول الله، ولا فهم آخر لعدم تطبيق الأمير للحدود. فإذا رأى الأمير أن يدبر شؤون الناس بقواعد أخرى على نحو ما نعرفه اليوم من قوانين ونظم وتوزيع السلط والإدارة ... الخ. فإن ذلك لا يؤخذ إلا بكونه جنوح عن تنفيذ أحكام الله! وعلى كافة المؤمنين وعمومهم واجب القيام بذلك التنفيذ كما يرى ابن تيمية. غير أن ذلك ينبغي أن يكون بتدرج، فإذا كان فيه ضرر عليهم، فلا جناح عليهم أن يكتفوا ب: " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " لكن حينما تحصل القدرة، فإنه واجب تنفيذ الحد بالقوة وحد السيف. وهذا ما نراه يحصل اليوم في المجتمعات العربية. ففي بعض الدول، يقوم " المؤمنون " لتوفر القوة لديهم بتنفيذ الحد بالسلاح، فتقطع الرؤوس وتذبح الناس وتسبى النساء وترجم وتجلد (فهي من مغانم الجهاد وفق الفهم السلفي المتشدد).

السلطة عند ابن تيمية هي: 1- الغلبة – القوة – تطبيق آيات الله على جملة الفهم لها – العقيدة على نحو واحد في الفهم – عموم الناس – أهل الرأي وعلماء الدين والفقهاء (أي ابن تيمية ومن معه) – الرعية.

2- ليس هناك مؤسسات بل جماعات – ليس هناك اختصاص طبق المعرفة العلمية بالخاص، بل الأحكام وفق فهم عام – ليس هناك مسؤول في رأس هرم السلطة، بل مسؤولين وفق الحاجة – ليس هناك مواطن، بل رعية ترعى – ليس هناك زمن، بل ثبات لنصوص ليست كلها مضبوطة – ليس هناك قوانين، بل الأعراف المتداولة وفق السياسة – ليس هناك دولة، بل الحاكمية وفق القوة.

3- ليس هناك اجتهاد في النصوص الفقهية، بل التقليد والثبات – الاجتهاد يساوي البدعة والخروج عن الدين – ليس هناك علم إلا مجموعة من النصوص التي جمعت في صحيح البخاري الذي اعتبر أصح كتاب بعد القرآن كما يقول أصحاب السلفية – ولا اجتهاد في النص، بل النقل منه.

بهذا نستطيع أن نفهم العقل السلفي التقليدي المتشدد، وبهذا نستطيع أن نفهم ما يحصل على الأرض من اقتتال وذبح وتعميم الخوف والانهيار الاقتصادي. وبهذا نستطيع أن نفهم ونستشرف مآل وأفق هذا العالم الذي يسمى العالم العربي والشرق الأوسط. وبالجملة، فإن السلطة عند ابن تيمية ومن ولاه، هي حرب الكل ضد الكل، وسيادة العقيدة كما وضعها صانعوها، كما لو كانت هي الدين الإسلامي. وأي فهم أو اجتهاد في تطوير المجتمعات هو زندقة وخروج عن الملة وكفر يستوجب الحد، أي الذبح. 
الدكتور أحمد الطريبق  

المتابعون

من أنا