Website counter

بحث هذه المدونة الإلكترونية

موقع خاص بالبحث في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية

الأحد، 18 يوليوز 2010

السلطة وإنتاج الذات

" إن الامتياز الذي يعطى للدولة كجهاز للسلطة يؤدي بشكل ما إلى التصور العملي للحزب القائد والممركز والعامل على غزو سلطة الدولة؛ لكن في المقابل، فإن هذا التصور نفسه لتنظيم الحزب هو الذي يبرر نفسه من خلال هذه النظرية في السلطة. نظرية أخرى وممارسة أخرى للصراع وتنظيم استراتيجي آخر، كل هذا هو رهان كتاب فوكو "

السلطة وإنتاج الذات

كان من الضروري أن يؤدي فشل النظريات السياسية الكبرى وقد أدى فعلا إلى العمل على بحث يتعلق بما كانت عليه طريقتنا في التفكير في السياسة خلال القرن العشرين. فالأسئلة التي لم تطرح هي: ما هي السلطة ؟ وما هي علاقتنا بها كذوات ؟

المسافة تجاه الذات Distance de soi

بالنسبة لفوكو، لا يتعلق الأمر ب" قول الحقيقة " فذلك سيكون خيانة لها. كان يريد أن يكون ممارسا بالفعل لخطابات الحقيقة (véridiction) ومؤكدا على الانفصالات التاريخية للممارسات الاجتماعية كما هو الشأن لدى طوماس كون حينما تحدث عن البرادايم paradigme العلمي. في نطاق تفكير كانغيلهيم Canguilhem الذي عارض الفصل بين السليم والمريض ( الحياة هي ما هو قادر على الخطأ)، سيتشبث فوكو بتفكيك البداهات الأكثر صلابة والمتعلقة بمفهوم السليم وذلك بالتأكيد على الجنيالوجيا التاريخية، مقتنعا أننا لا ينبغي أن نعتبر أنفسنا آلهة، ذلك أن " الخطأ هو جذر ما يشكل الفكر الإنساني وتاريخه ". مثل هيدجر (ماهية الحقيقة) يعرف فوكو الحرية بالتيه (Errare humanum est ). فأخلاقه هي أخلاق المسافة تجاه الذات، وتجاه الحركية والإحساس بالتغير المرتبط بالأحداث والوقائع، وذلك على عكس الدوغمائية dogmatisme.

الاتجاه المضاد والتحول Contre-sens et tournant

من الناحية السياسية اتخذ فوكو مكانة جورج باتاي Bataille وسارتر Sartre ورايش Reich، على غرار شغبهم وإدانتهم لكل السلط والمطالبة بالتمرد Transgression. إن تحول سنوات 80-82 هو في الوقت نفسه تحولنا نحن جميعا (كل فكر العصر)، وتحول فوكو كان يأخذ المسافة الكافية تجاه أعماله حيث كان يمارس معارضة الدوغمائية بالعمل action. لقد كان في كل هذا عودة للديالكتيك والذات بعد أن تم النظر إليها لا كدوغمائيات ولكن كأحداث على الأرض.

الوضع التاريخي position historique (جنيالوجيا الذات généalogie du sujet)

علينا بداية أن نحدد السياق التاريخي والمنهج المستعمل من قبل فوكو الذي تميز بقوة كفيلسوف وكمؤرخ وكسوسيولوجي. جعله تاريخ العلوم يرفض الدوغمائية التي كانت مهيمنة سواء كانت هيجيلية أو ماركسية، كما أن الفينومينولوجيا فشلت أمام اللسانيات أو التحليل النفسي في اختزال الذات إلى مجرد قصديتها intentionnalité. أصبح الأمر يتعلق بتناول الذات كموضوع للمعرفة، مرورا من الذات المؤسسة constituante إلى الذات المؤسسة constituée، أي كوصف للفرد من خلال انخراطه في المجموعة، لكن تبعا لاتجاه نيتشه وهيدجر، أي انخراطه في الصيرورة التاريخية وجينيالوجيته التي عمل بها فوكو (محاولة وضع الذات في ميدان تاريخ الممارسات والصيرورات حيث لم تكف الذات عن التغير والتحول).

نجد تقاربا كبيرا بينه وبين حنا أرندت Hannah Arendt ( في مواضيع مثل البيو- سلطة) التي يمكن أن تفسر بالتأثير الذي خلفه هيدجر في فكر فوكو. لم يتعلق الأمر لدى فوكو نهائيا بإقامة معرفة كلية لا تترك مكانة للذات المؤسسة. كان عمله نقديا ولم يكن نسقيا. فإذا كان يتناول الذات من الخلفية المعاكسة فليس لإقصائها بل لاختصار ادعاءات الحقيقة وجعلها أقل جمودا في تعريفاتها، ومن أجل فتح آفاق جديدة لما لم ير ولم يسمع بعد من أصواتها، وبلفته الانتباه للشروط العملية للذات فإنه يدعونا إلى إنتاج للذات الواعية (الاهتمام بالذات).

ممارسات وطقوس وخطابات ( في المنهج) pratiques, rites et discours

على المستوى المنهجي هناك نفس النزعة الريبية scepticisme تجاه كل ما هو إيديولوجي لذلك توجه فوكو نحو الممارسات، أي تاريخ الممارسات الاجتماعية وممارسات النصوص، وتأثيرها وتنفيذها وتشكيلها في سلسلة série. يتحدد فوكو إذن كممارس للفلسفة إذ ينجز قطائع مخترقة للنصوص من أجل إقامة معنى في تدرجها وفي غرابتها الدفينة. ما يهمه ليس هو ما يعتقده الأشخاص بل " ما يفعلونه والطريقة التي يفعلون بها " وبهذا يضع نفسه على قرب من مارسل ماوس Marcel Mauss دارسا تقنيات الجسد والطقوس rites في دراسته للأساطير. إن موضوعه ليس هو الإيديولوجيا بل " الممارسات المؤسسة " حيث الذات والموضوع يتشكلان ويتحولان. نستطيع أن نرى في وحدة الذات والموضوع هذه بيئة للممارسات écologie des pratiques حيث الشرطة police فيها هي البرهان الأوضح. بالفعل فإنه في الممارسة تنفذ وتنجز السلطة. أول نتيجة لهذه الملاحظة هي أن " السلطة تأتي من تحت "رغم الديالكتيكية الموجودة بين سلطة الدولة وممارسات السلطة، فإننا نساهم كلنا في السلطة وفي إعادة إنتاج نظام ( المحكومين كما الحاكمين). إذا كان المنهج يأخذ بجدية أسبقية الممارسة فإنه لا يفعل ذلك لاختزالنا فيما نفعل بما أنه ينتهي بجينيالوجيا للأخلاق. هذه الممارسات هي ممارسات كائن مفكر ف" الفكر هو الحرية علاقة بما نفعل ". لا يتعلق الأمر إذن باستعمال أكثر للسوسيولوجيا بالمقارنة مع الإيديولوجيا. كان نيتشه يقترح تعويض السوسيولوجيا ببحث لأشكال السيادة، يتعلق الأمر هنا بالتشكيلات التاريخية للذات ولاستشكالاتها problématisations، ولممارساتها بدون شك، لكن باعتماده على نصوص وعلى عقلية وعلى سلطة الخطاب كما تعتمد الطقوس على الأساطير.

إنتاج الذات production du sujet

حينما يتحدث عن اختزال بحثه في السؤال التالي: " انطلاقا من أي تقني tecknai تشكلت الذات ؟ " آخذا بشكل عكسي تاريخانية نسيان الوجود لدى هيدجر، فإنه لا يفعل ذلك بالمعنى الذي يستعمله سلوتيردايك Sloterdijk الذي يعتبر أصل الإنسان في التقنية كسكن وكإسقاط للعالم. وإنما يفعله في اتجاه تقنية الاستعباد أو التذييت subjectivation، تقنية تستهدف مباشرة الذات كحرية، وتعمل على موضعتها التي تسمح بجعلها موضوعا للمعرفة، إذن في الاتجاه الحصري لتقنية إنتاج الذات. هناك صيرورات أخرى للتفريد وأسس مادية أخرى للفرد. إننا هنا أمام إعطاء أهمية للذات، لكن في حدود معينة باعتبار قيمة التراتبية، دون الأخذ بعين الاعتبار للتبادل التجاري الذي يسمح بعلاقات مساواة مجهولة، لكن وزنها يؤثر في الممارسة ويضعف من التراتبية. يبقى أن تقنيات إنتاج الذات هذه موجودة وقائمة، والتراتبية والسلط موجودة كذلك بشكل كلي، وبذلك تنتج الذات باستهدافها كذات (الاستعباد) وكمقاومة موجودة(التذييت subjectivation). ما يحصل في هذا الاستبطان للقانون هو مسؤولية وقابلية الذات للتجريم ذات أسأس ديني (الواجب-الوجود)، لكنها تترجم كحاجية لحقيقة الذات وصدقية الاعتراف aveu. تستجيب الحقيقة للسلطة كصيرورة لتشكل الذات. لا يتعلق الأمر فقط بالتقنيات الجسدية بل أيضا بشروط خطاب حقيقي كطقوس. في الواقع هناك حلقة دائرية بين الحقيقة والسلطة والهوية. إن حقيقة الذات تنتج فعليا وعمليا.

الحلقة الدائرية للحقيقة Le circuit de la vérité

عرض فوكو ثلاثة نماذج للموضعة objectivation التي تحول وتغير الكائنات البشرية إلى ذوات:

- العلوم (اللسانيات، الاقتصاد، البيولوجيا)، المعرفة الموضوعية.

- السلطة والممارسات التقسيمية (انقسام إزاء الآخرين أو داخل الذات)، الأنساق الدالة، السياسة.

- تمييز (الجنس) في الممارسات، أخلاق تنضاف إليها تقنيات الإنتاج (العمل).

في كل الأحوال فإن الحقيقة والسلطة والأخلاق وهي تتشكل بتداخلها وتفاعلها، فإنها تتبادل التأثير فيما بينها. تستلزم الأخلاق، فإذن الحرية، السياسة التي تستلزم بدورها الدين. لسنا بعيدين هنا عن ثلاثية دوميزيل Dumézil ( الرهبان، المحاربون، العمال). إن المعرفة لا تتطابق مع السلطة التي لها معها علاقات، كما لا تتطابق الحقيقة مع الأخلاق. لكننا لم نقل بعد أي شيء، لقد طرحنا فقط إطار التحليل ووضعنا المشهد، فلندخل في الموضوع الذي هو تحليل السلطة.

علاقات السلطة Les relations de pouvoir

على عكس ما نتصوره عادة، لا يعتبر فوكو السلطة كشر مثلما يعتقد سارتر، فالسلطة ليست اضطهادا بسيطا أو مجرد سيطرة، ليست السلطة فرض تنظيم كما أنها لا تختزل في المنع أو في القانون. إنها بداية منتجة ومحرضة وتأتي من تحت. نواة السلطة هي في كونها تتوجه نحو الحرية Liberté أو المقاومة résistance. السلطة هي فعل ضد فعل وليس السيطرة، وهي سلوك ضد سلوك. لا تمارس السلطة إلا على " ذوات حرة " وقادرة على المقاومة. فليس هناك مجتمع بدون علاقات السلطة، وكلما زادت الحرية زادت السلطة، وهنا تحديدا فإن فوكو يرفض يوطوبيا التواصل utopie communicationnelle التي نظر لها هابرماس Habermas وافترض أنها ستتجاوز السلطة عبر المحاججة والتواصل argumentation et la communication.

حقيقة الذات vérité du sujet

إن الذات بتموضعها بين الاستعباد والمقاومة، فإنها تشارك في السلطة أي في كل ما هو اجتماعي. فالذات وهي تتصرف وفق القانون وتعترف به، فإنها تدمج السلطة في داخلها كواجب - وجود الذي لا يمكنها البعد عنه، وبذلك تنجز قطائع داخل الذات بين الواجب والوجود، ومن ثمة فهي تضع مسألة الحقيقة في الذات. إن إنتاج الذات لحقيقتها هو أحد الأشكال العظمى لخضوعنا (الاعتراف aveux، الذنب culpabilité). فذلك هو أساس تجارة نظرية الالتزام Théorie du commerce de l’engagement للحصول على الخضوع من أجل أهداف تجارية في الغالب. هناك العديد من تقنيات المقاولة والعقود التي تقارب هذه الأشكال من التحكم في الذهنيات والعقليات. وبدون إدماج للقانون وللمسؤوليات داخل الذات لن تكون هناك ذات. فضرورة الخضوع تنتج حقيقة الذات التي لن توجد قبل ضربات السلطة، لكنها تعبر عن نفسها في المقاومة النسبية حيث حقيقة الذات يمكن أن تعمل أيضا على نزع الشرعية délégitimation عن السلطة. إن الاستقلالية هي في الواقع حقيقية لكنها تختزل في عملية إدماج القانون داخل الذات والقبول به عوض أن تبتكر قوانينها الخاصة بها في تأسيس مستقل مستحيل، بعبارة أخرى، إن الذات لا تتشكل خارج العلاقات الاجتماعية والعاطفية وكل أشكال الارتباطات.

السلطة المستبطنة pouvoir intériorisé

لا توجد السلطة خارجة عن الذات، من جهة فالفرد – الذات لا يبرز أبدا كتقاطع تقنية للسيطرة أو تقنية للذات، ومن جهة ثانية فإن الحكومية gouvernementalité كفعل ممارس على الحرية يستلزم علاقة الذات بنفسها. ليس هناك فرق ذا أهمية لدى الإغريق بين حكومة الذات gouvernement de soi وحكومة الآخرين. ليست السلطة ممركزة في قمة، لكن هناك العديد من أشكال الحكومية gouvernementalité (الأسرة، المدرسة، السجن، المصانع) التي لا تهدف إلى السيطرة بل إلى التحكم في الأشياء ( المعرفة ) وفي الآخرين (السلطة) وفي الذات (الأخلاق). ليس هناك استقلال حقيقي للسلطة بما أن تقنيات السلطة تحدد بشكل كبير جنيالوجيا المعارف وعقليتنا rationalité. ما يريد فوكو أن يقوله بهذا هو أنه علينا أن نعي بحدودنا وأن ندخل في هذه الحدود أكثر ما يمكن من التفكير réflexion، بدل أن نلفظ كل سلطة ونرفض كل هذه التوظيفات المستحيلة لإنتاج الذات، ينبغي المزيد من إنتاج الذات والاقتصار فقط على الوظائف السلبية للدولة كما تريد الليبرالية. نحن في حاجة إلى السلطة كما نحن في حاجة إلى المفهوم من أجل الإمساك بالواقع حتى لو تطلب ذلك أن نحافظ على حركيتهما.

بيئة الشرطة écologie de la police

لا تأتي أهمية كتاب " المراقبة والعقاب surveiller et punir " من كونه يرفض السلطة في أقصى حدودها وإرادتها العمياء للقوة. ما يدهش على العكس هو الطابع اللاواعي لوظيفة السلطة التي لا أحد أرادها أو اختارها أو طالب بها عبر نفوذ ما، والذي لا يظهر إلا عبر مستوى الممارسات: أي ما يسمى ببيئة الشرطة أو السجون. تصبح الشرطة مشاركة في نظام ترتبه بنفسها من أجل إعطاء المستوى المطلوب من القمع ( يصبح المنحرفون الصغار مخبرين في جهاز المراقبة لدى الشرطة على الأنشطة غير المشروعة حيث تتحكم الشرطة في الحركة الثانوية لهؤلاء). هذه الدقة وهذا التوازن اللذين يطفوان على الشرطة والجريمة ليستا بدون نظائر لها في آليات السوق. أمام هذه السلطة المجهولة فإن كل فرد يشعر بالاحتمال الشمولي للتواطؤ والتحكمية arbitraire. تصبح السلطة أكثر فأكثر شمولية بقدر ما تعمق فينا الفردية وتجعلنا أكثر استقلالية. كالعادة إنه باسم مصلحتنا تمارس في حقنا المجازر. إن الشرطة تتكلف بسعادتنا وبحياتنا في حين أن السياسة تنظم وتحل النزاعات. ومع ذلك، لا ينبغي أن نرى في هذا فقط الأمر الذي لا يحتمل والبشع، بل ينبغي أن نشعر بالحاجة أيضا إلى ضرورته، إذ من غير الممكن التخلي عن الشرطة.

المصلحة العليا للدولة raison d'état

المشكل ليس في السلطة بقدر ما هو في تكاثرها على شكل المصلحة العليا للدولة وانتظامها. هذا التكاثر الذي يقوي ويمدد السلطة الرعوية pastorale في بيو- سلطة ساحقة تعتبر أن كل شيء مسموح لها باسم النوايا الحسنة. لا يتعلق الأمر فقط بعقلنة rationalisation السلطة بل بجهة خارجية حيث يصبح البشر موضوع التأثير والعلم. ليست البيو- سلطة كما هو الشأن بالنسبة لحنا أرندت Hannah Arendt قلقا منزليا حول الثروة والمعيش اليومي، بل تدبير حياتنا بعقل تكاثري يختزلنا في حساب مضمون ومؤمن. حينما يقول فوكو إنه كلما كانت الدولة الحديثة تعمل على الفردية، كلما كانت أكثر شمولية، وكان هناك " تلازم دائم بين فردية أكثر تصاعدا وتقوية لهذه الكلية "، فإنه ينبغي فهم ذلك انطلاقا من مصلحة عليا للدولة أصبحت أكثر استقلالية على نحو إمبراطورية تفضل الروابط المباشرة مع الإمبراطور فوق أجساد وسيطة. هذا على كل حال رفض ودحض لليبرالية. حسب فرضيات كوشي Gauchet فإن هذه الاستقلالية للدولة تنتج عن نزع السيادة للكنيسة. يمكننا أن نعتبر أن الدولة نفسها قد أضاعت شرعيتها أمام مجتمع مدني. بيد أن فوكو يرفض التعارض بين المجتمع المدني والدولة، مؤكدا على وحدتهما مع سلطة رعوية pastorale تخترق كل المجتمع، هذا لا يمنع من كون الدولة قد أضاعت شرعيتها لفائدة الاقتصاد الذي يبدأ نفسه بإضاعة سيطرته. إن المشكل هو بالأحرى استرجاع استقلاليتنا auto-nomie كمشروع جماعي projet collectif ظاهر بدل أن نترك في مسار طيع بدون مقاومة نتيجة لفقدان الشرعية. إن المسألة هي مسألة سلطة مستبطنة ومسألة أخلاق في النهاية.

الدولة القدرية Etat-Providence وإنتاج الاستقلالية production de l'autonomie

تتغير الأحوال، ويضعف الانضباط لفائدة المعيار ولا نغدو في حاجة إلى التضحية بأنفسنا أو التنكر لأنفسنا من أجل الوصول إلى حقيقتنا: " منظورية الأمن الوجودي تسهل توجه الأفراد، على الرغم من أن ذلك يتم وفق منهج مختلف كليا عن نموذج الانضباطات ". من المؤكد أن الدولة القدرية معاصرة لكل المجازر، لكن وبدون شك فإنها المصلحة العليا للدولة المستقلة والمنظمة. علينا استرجاع هذه الاستقلالية لأنفسنا وإنتاجها. لا يمكن إذن التخلص من السلطة ولا من الأمن الاجتماعي، لكن يمكن التخفيف من مفعولاتها ( وكذا تكاثرها ) وذلك من خلال الوعي الجماعي الذي هو المشكلة لحد اللحظة. أثمن إشارة قدمها فوكو هي في قوله: " لا تبدو لي النحن مجبرة على أن تكون سابقة على المسألة، بل لا يمكن أن تكون سوى النتيجة ". هذا ما يبدو مبدأ سلطة بدون سيطرة تشكل جماعيا كصراع ضد الاستعبادات الموحدة للهويات التي تصبح لينة أكثر فأكثر. إن هدف سلطة كهذه هو إعطاء " لكل استقلاليته بالمقارنة مع الأخطار والظروف التي قد تكون من طبيعتها أنها تصغر من شأنه أو تستعبده ". فمشكل التبعية dépendance لدى المدعومين هو أمر جديد. إنه يؤكد نزولا للاستعجال كما أنه في الوقت نفسه يؤكد طلبا للاستقلالية أكثر قوة، لكن " هناك عدةdispositif للتغطية الاجتماعية لا تفيد الفرد إلا إذا كان مندمجا ". هكذا يتمفصل الإدماج intégration والإقصاء exclusion. على أساس هذه العقلية rationalité ينبغي العمل والفعل من خلال شمولية الحقوق. هناك بالفعل " نسق متناه أمام طلب للاتناهي " لكن إذن كانت ثنائية الحمايات protections لا مفر منها انطلاقا من مستوى معين للحماية، فإنه يبدو لي أن محصولا للاستقلالية يفرض نفسه رغم أنه غير مشار إليه. الكل يعرف في عصرنا هذا أن إنتاج الاستقلالية أصبح أكثر ضرورة من ذي قبل.

الفرد المتأمل L’individu réflexif

إذا لم يكن الفرد يوجد في ذاته بل فقط كاستعباد، فلن نكون أجسادا خاضعة للتأديب بل ذواتا مستقلة ومجهولة ومحكومة بإنتاج الذات. بقدر ما كانت هناك حرية أكثر، كانت هناك سلطة أكثر. لم يوقف تحرير العادات mœurs صيرورات الحضارة بل أدمج بالأحرى الإكراهات. هذا الإدماج لا يرفضه فوكو، بل يعتبره كاهتمام بالذات souci de soi يستلزم تأملية وانفصالا أكثر مما يستلزم المقاومة. هناك فائض مهم للنرجسية narcissisme كانعكاس لطبيعة العصر، في أخلاقه التي تمتد إلى نزع صفة الجنس عن المتع وتقريبها إلى الصداقة ( يعيد الحب إدماج السلطة عبر تنافر الرغبات). فالإنسان يحركه التشبث بنفي الجنس إلى حد جعل هذا النفي سببا للشذوذ الجنسي كإتلاف للهوية وهذا يعتبر تفريط. إن كل هذا لا ينبغي أن ينسينا كون الذات إنتاج. يجب اعتبار ذلك كإعادة تأكيد على إنتاج للذات، لسيران السلطة التي ليست خارجة عنا بل تعطينا الصورة والشكل إلى حد فرض حكومية الذات gouvernement de soi.

ينبغي أن تساءل كل البداهات التبسيطية عن الصراع الثوري، وكذلك الاستعمال السياسي العادي لدى فوكو، وهذا إذا أردنا أن نعطي الحظ للنزعة الانقلابية كي تستجيب للأشكال الجديدة للسيطرة وخصوصا الاستفادة من الفرص الجديدة للتحرير ولإنتاج مستقل ملموس. ليست الحرية مهداة بل هي منتوجا، فلا يكفي إسقاط السلط القائمة، بل ينبغي بناء سلطة جماعية تأملية. ينبغي كما يردد فوكو أن نحافظ على شجاعة الحقيقة courage de la vérité، بدل الكبت أو الهوية العمياء، ينبغي أن لا نخاف من القول بأننا أخطأنا، وهذا شرط للخطاب العلمي. وهنا يعطي فوكو المثال حينما يقول: " كنا مخطئين حينما كنا نعتقد أن كل أخلاق تقوم على الممنوعات وأن سحبها يعود إليها وحدها في حل مسألة الأخلاق " وكنا مخطئين أيضا حينما كنا نعتقد أن الرأسمالية كانت في حاجة إلى قمع الجنس. إن مسألة المسؤولية تطرح هنا بحدة: " كيف يمكننا ممارسة الحرية ؟ ". ينبغي أن نعترف بأخطائنا وجهلنا وهشاشة هويتنا وعدم كفاءتنا الفظيع. مبدأ الاحتياط هو مبدأ حرية بدون ضمانة، لا مبدأ ضعف كفاءة الفرد والمعرفة كنتاج لزمنها دون أن يمنع ذلك الذات من التمرد ضد العالم الذي خلقها. هذه الحرية غير ممكنة إلا بدعم المؤسسات والأمن الاجتماعي وقوة السياسة التي بدونها سنتجه نحو الكارثة. نحتاج إلى سلطة جماعية لا تكون مستقلة بل مفكر فيها réfléchie ونتيجة لاستقلالية. هذه هي المسألة التي ينبغي علينا حلها ومعالجتها أمام هشاشة نموذج التذييت subjectivation الحديث: إنتاج شروط الحرية: " الحرية هي الشرط الأنطولوجي للأخلاق، لكن الأخلاق هي الشكل المتأمل الذي تتخذه الحرية ". إننا هنا بصدد أنطولوجيا علاقتنا بالأخلاق وبذواتنا والتي خصص لها ميشيل فوكو ثلاثيته الأخيرة: " إرادة المعرفة " و"الاهتمام بالذات " و" ممارسة المتع ". د. أحمد الطريبق.



المتابعون

من أنا