Website counter

بحث هذه المدونة الإلكترونية

موقع خاص بالبحث في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية

الأحد، 2 أكتوبر 2011

هيدجر والطريق


ماذا يقصد هيدجر حينما يتحدث عن نهاية الفلسفة ؟ ماذا يقصد حينما يقيم الفرق بين الفلسفة والفكر ؟ ما القصد من هذا السؤال عن التقنية ؟

فكر هيدجر، في الواقع، هو سلسلة لانهائية من التساؤل، فالسؤال عنده هو انفتاح طريق وانفتاح أفق؛ غير أن التساؤل لا يكون محايدا، إنه يحصل عبر ومن خلال التفكير، وهو لا يحد أو يتحدد في علم ما أو معرفة معينة، ولا حتى في حدود فلسفة ما؛ فكر هيدجر هو فعل مزدوج ومتآني للتفكيك والبناء. هناك تشابه بين التساؤل والتفكير والمشي. نحن هنا أمام استعارة ينبغي تحليلها وشرحها: الطريق والمشي والتفكير ؟

الفكر هو كالمشي في الغابة حيث الطرق غير موثوقة " Holzweg "، إذ يمكن في أية لحظة أن تنتهي بالانسداد؛ غير أن هذا لا يعني أنها مغلقة بالمطلق، بما أن حراس الغابة والحطابين يعرفون جيدا المشي في هذه الطرق المتصفة بالاحتمال؛ هناك علاقة مباشرة بين هذين الطرفين في الغابة، الواحد منهما متعلق بالآخر وهو يعرف كيف يجتاز الغابة. إنهما يعرفان ماذا يعني المشي في طريق يؤدي بالنسبة لهما حيث يريدان الوصول؛ وعلى العكس من ذلك؛ فإن أولائك الذين ليس لديهم المعرفو والتجربة بالغابة لن يصلوا إلى أين، إنهم يجهلون هذه الطرق. الغابة إذن قابلة للاجتياز، بل وهي سهلة في ذلك بالنسبة للبعض، لكنها معقدة بالنسبة للبعض الآخر.

كذلك هو طريق الفكر ! فهو واضح بالنسبة لأولئك الذين لهم التجربة به، إنهم يمرون به بناء على تجربتهم، ولا يعني هذا أن هذه الطرق سهلة بالنسبة لهم، غير أنهم يملكون الوعي بطابعها الفجائي. ليس طريق الفكر فضاء مسطحا ومنظما، إنه كثير الاعوجاج ويدعو للحذر بما أنه فجائي. وليس طريق الفكر مغلقا أو مقفلا، إنه بالأحرى للاكتشاف، أو بعبارة أفضل للانكشاف ! وذلك عبر قوة التأويل. ليس التأويل حركة بسيطة لفعل التأمل، بل إنه القوة التي نوقعها بكينونة الأشياء لكي نكشفها. الفهم هو قبلا فعل عنيف على الأشياء لكي تتحدث إلينا وتكشف عن أسرارها الخاصة. الطريق هو إذن مساحة عذراء على الدوام، على عكس الممر المنظم والمحكم البناء، فهذا الأخير ليس فيه فجائية.

بينما يقودنا الممر بهدوء نحو الاتجاه الذي يسهل الذهاب إليه والذي نعرفه مسبقا، فإن الطريق يقودنا إلى أشياء أخرى نجهلها، لكن نريد معرفتها. ليس للطريق قيمة ثمينة إلا بقدر ما يعدنا بأشياء فجائية، أشياء تكون صوت ووجه ما ظل لمدة طويلة مختبئا، صوت ووجه ما يمكن أن نكشفه بالقوة التي نوقعها على الأشياء لكي تنكشف. ليس للطريق من أهمية إلا بالنسبة للذي يعرف أهميته، إلا بالنسبة للذي هو في بحث عن أشياء ! مثل هذه الغابة حيث الحطابون وحراس الغابة لهم الكثير مما يمكن فعله. لا يكون الطريق في منزلة الطريق الذي لا يؤدي إلى أين إلا بالنسبة للذين ليس لهم هناك أية مصلحة. طريق الفكر ليس مغلقا ولا مقفلا، إنه بالنسبة للذين لهم التجربة به مغامرة مستحقة نحو شيئ يراد جعله يتكلم ! غير أن الطريق يكون مغلقا حينما لا يكون هناك أي اهتمام أو مصلحة. فالطريق هومسألة مصلحة ! هل تبحث عن شيئ في هذا الطريق ؟ إذن فجيد لك أن تمشي فيه ! ليس لك مصلحة في هذا الطريق ؟ إذن، فأنت لن تجد فيه أي شيئ !

الفكر هو أيضا مسألة مصلحة وإرادة، نحن لا نفكر فقط لكي نفكر، بل نحن نفكر من أجل شيئ نريد الوصول إليه. طريق الفكر هو دوما طريق مصلحة، وإلا فقد ميزته كطريق، فالفكر هو دوما مسألة مصلحة وإلا ما كان له من معنى. الفكر هو قبلا التورط في شيئ ولأجل شيئ. يكون الفكر دوما محركا بإرادة أو قلق أو خوف، لذلك فإن الفكر قوة.

ليس للغابة أية قيمة بالنسبة لمن ليس له فيها مصلحة، لكن لها قيمة قصوى بالنسبة لمن له فيها مصالح؛ هذا ما يجعل أن الطريق لا أهيمة له إلا بالنسبة لمن يبحث فيه عن أشياء. فما نبحث عنه هو الذي يمنح الطريق القيمة والمعنى. يدعو الطريق إذن إلى المشي، وهو مشي قيمته في إمكانيات البحث والحركة والاستثمار، ومن هنا، فإنه ليس للمشي مسبقا أية ضمانة، لكنه واعد بما أنه مملوء بالاحتمالات المفاجأة والمصلحة.

إن الإنسان، راع الوجود واليتيم هذا مجبر على المشي، وإذن على الإنصات واستنطاق الطريق الذي يبدو بمظهر الأخرس. يستعمل الإنسان إذن اللغة لأن له حوار أخرس وصامت مع الأشياء وكينونتها. هناك علاقة قوية بين اللغة وكينونة الأشياء، وهي علاقة مملوءة بالعنف ! العنف الذي غايته هو القدرة على الإنصات لهذا الصوت ما تحت الكلامي infraverbale للوجود الذي يبدو أخرسا، في حين أنه مملوء بالصخب والموسيقى، ومملوء خصوصا بالإمكانيات اللانهائية للمعنى. نبدو وكأننا نسكن هذا العالم، والحال أننا نسكن في اللغة ! هذه اللغة هي ما يربطنا بكل وجود. إنها إمكانيتنا ومحاولتنا لكي تتحدث هي من خلالنا عن العالم الذي يبدو لانهائيا وأكبر اتساعا من أن نحيط به في حركة واحدة. غير أن اللغة هي أيضا فعل إنصات ! لا نستطيع الكلام دون الإنصات. بين الإنصات واللغة ينسج معنى قدرتنا على الفهم الذي ليس سوى فعل عنف خطر جدا، بما أنه يحمل معه إمكانية التيه. يجب إذن إتقان الإنصات وإتقان توجيه اللغة، لكي لا ننحرف ولا نخلط بين ما ينتج عن إنصاتنا ولغتنا. علينا بكل بساطة أن نمتلك فن الإنصات وإذن فن الكلام. علينا أن نتقن هذا الفن ! بهذه الطريقة فقط يستطيع الإنسان راع الوجود أن يعرف كيف يكون راعيا للوجود. ربما بهذه الطريقة، يستطيع تفادي الإفراط في العنف الذي يكون وجهنا القاتل: التقنية !

نهاية الفلسفة هي إذن نهاية فكر صنع طريق الفكر، وإرجاعه فضا وغير ذي معنى، أي تحويله إلى درب ! هي أيضا فكر نسي دوره في الإنصات لصوت الوجود، بعد أن اختزله في تمرين بسيط للهندسة والعلم. في المقابل، فإنه فكر يقظ وواع بعلاقته العنيفة مع الميتافيزيقا. نهاية الميتافيزيقا هي نهاية فكر غير واع بوضعه التائه والبعيد عن الوجود، غير واع بالخلط الذي أقامه بين الوجو والموجود والدازين. نهاية الميتافيزيقا هي نهاية فكر لم يفهم ما تعنيه الطرق التي لا تؤدي إلى أين، نهاية الميتافيزيقا هي نهاية فكر لم يفهم ما تعنيه الطرق التي لا تؤدي إلى أين " Holzwege ". ومن هنا اختزل الفكر في العلم والتقنية، وهو الآن يعاني ! وعيا منه بذلك، لم يعد الفكر يسمح بهذا البعد، إنه أضحى يدعو إلى إعادة التفكير في قدرنا بدءا بوضعه طريقنا موضع تساؤل، بمساءلة وجود الأشياء، لا لإيجاد السر النهائي أو العلل النهائية لوجودنا، ذلك أنه ليس هناك من أسرار أصلية، وإنما لإعادة بناء علاقتنا بالوجود.

الدكتور أحمد الطريبق

1- Heidegger M. : " Chemins qui ne mènent nulle part " Gallimard, idées.

المتابعون

من أنا