- مع بداية السبعينيات، كان الفكر الماركسي هو التيار السائد في العالم، بالإضافة إلى حضور مهم لفلسفة سارتر. بيد أن الفكر الماركسي كان مرتبطا بحركات التحرر في العالم التي كانت موجودة على الأرض كحركات سياسية. انتقل هذا التأثير إلى المغرب، وقد كنت من أولائك الشباب الذين انضموا إلى هذه الحركة، أي أنني تعرفت على الماركسية داخل هذا السياق. غير أن هذه الماركسية لم تكن في الواقع سوى كتابات ونصوص صيغت داخل الآلة الإعلامية السوفيتية، وكذا الآلة الإعلامية الصينية، وبالتالي فإن هذه الماركسية لم تكن سوى ماركسية السوفيات والصين، فقد كانت بعيدة تماما عن الماركسية كما طرحها كارل ماركس ضمن إشكالية تتعلق بنقد المثالية الألمانية وخصوصا هيجل، والبحث عن شروط تغيير الواقع الإنساني في سياق التدهور الحاد الذي كانت تعرفه أوروبا على مستوى الاقتصاد والعلاقات الإنسانية. بالنسبة لي، كما بالنسبة للجيل الذي أنتمي إليه، فإن الماركسية التي اعتقدنا أننا ننتمي إليها لم تكن سوى ماركسية باهتة بدون نفس فلسفي.
سيدي الكريم هناك الكثير من الباحثين العرب يجتنبون هيدغر بسبب الصعوبات التي تواجههم أثناء الاشتغال على المتن الهيدغري، وخاصة كتابه العمدة" الوجود والزمان" كيف تتمكنون من تجاوز هذه الصعوبات؟
- البحث في فكر هيدجر يطرح مشكلات كثيرة وصعبة: 1- فكر هيدجر هو مساءلة لكل التراث الفلسفي منذ الأسطورة الإغريقية إلى هيجل، إنه تفكيك دقيق له ولكل ما تضمنه من مفاهيم وقضايا ميتافيزيقية. 2- فكر هيدجر هو إعادة بناء لطريق الفكر أو للفكر بوصفه طريقا. 3- إنه يسائل من جديد مسألة اللوغوس وحدودها القصوى الممكنة. 4- تتجه أعمال هيدجر نحو السؤال الأصعب والأعقد: سؤال الإنسان وسؤال التقنية بوصفها إرادة الإرادة Le règne du vouloir. فهذه الأمور، على سبيل المثال لا الحصر، تضع الفكر المعاصر أمام ثقل كل التراث الفكري البشري. في المقابل نجد أن الباحثين العرب ظلوا منذ قرون مسجونين داخل إشكاليتين: السياسة والعقيدة. وبالتالي فلم تتح لهم الفرصة الكافية للتفكير بحرية خارج هذه الإكراهات.
من جهة ثانية، فإن أعمال هيدجر وصلت متأخرة بسبب أن العالم العربي لم يكن على احتكاك بالثقافة الألمانية في لغتها الأصلية، ولما أن أعمال هيدجر وصلت من خلال ترجمة الفرنسيين الذين تأخروا بدورهم في ترجمة أعماله، فقد ظل هيدجر غير معروف لدى المثقفين العرب، لسببين: مشكلة الترجمة – مشكلة " الحاجة " إلى هيدجر في ظل هيمنة إشكاليتي السياسة والعقيدة. بالإضافة إلى ما سبق، أقول إن العالم العربي لحد الآن غير قادر على تقبل فكر هيدجر، هناك هوة كبيرة جدا تصعب معالجتها، ذلك أن فكره يتميز بجذرية كبيرة يصعب على فكرنا تقبلها، فالفكر العربي مشحون بالمسلمات والقطعيات، لاسيما وأننا نعيش في ظروف تغلب عليها المواجهة السياسية والنزاعات الجهوية والدولية. مما يجعل المذاهب الأكثر شيوعا هي تلك التي لا يهمها السؤال الفلسفي بقدر ما يهمها قضايا السياسة.
شوهت الحداثة أصلية الإنسان وحولته إلى حيوان أليف، وبذلك صارت أكبر كذبة صنعها البشر، والمسؤولية في ذلك تعود إلى أفلاطون والمسيحية. ومن ثمة وجب التفكير في تصحيح المسار وفضح الأكاذيب وكل القيم الزائفة التي كبلت الإنسان وأساءت إلى قدره. والحال أن السماء، خصوصا في القرن التاسع، قد فقدت بريقها وهيمنتها وانتهى عهدها وصار على الإنسان أن يغير هذا الوضع، بأن يتحمل مسؤولية قدره، وهذا عند نيتشه هو الإنسان الأعلى. يستلزم هذا هدم كل الأكاذيب والأوهام التي بنيت، والتوجه نحو بناء الإنسان الذي يعلم أن الحياة والسياسة والاقتصاد والعلم ... الخ هي من صنعه، ولا توجد حقيقة فوق ما يستطيعه الإنسان، وما يستطيعه الإنسان أمر تحضه عليه طبيعته القائمة على إرادة القوة.
- لماذا نجد حضورا كبيرا لرمو ز فلسفية( دريدا وفوكو...) تمثل مدرسة ما بعد الحداثة في الفلسفة العربية المعاصرة وغياب رموز حداثية أمثال هابرماس في المشهد الفلسفي العربي ؟
- يفترض السؤال أن فكر فوكو وديريدا حاضر فعلا، وأنه في المقابل، فإن فكر هابرماس غير حاضر، وهذا غير صحيح. من المؤكد أن الفضاء الجامعي كان، منذ السبعينيات منفتحا بشكل جيد على كل هذه التجارب الفلسفية، وهذا ما يفسر أن الفضاء الجامعي كان دائما هدفا للقمع والاعتقال والمحاصرة والمنع، ومع ذلك فإن الفضاء الجامعي غير كاف لكي يدخل المجتمع في دائرة هذه التجارب الفلسفية.
نلاحظ مثلا أن مجتمعاتنا السياسية ونخبها لا تزال تتحدث عن تحديث المجتمع وبلوغ الحداثة وبناء دولة المؤسسات والديموقراطية ... مثل هذه القضايا غير مطروحة تماما في فكر فوكو ولا في فكر ديريدا ... الخ الأمر الذي يبين إلى أي حد نحن خارج الراهنية ! مازال سياسيونا يتحدثون عن السلطة بالمعاني التي تحدث عنها روسو ومونتيسكيو وفيبر وماركس ... الخ ويستمر المنظرون السياسيون في الحديث بدون ملل عن دولة الحق والقانون والحكامة الجيدة والشأن العام، وكأننا نعيش في القرن الثامن عشر !؟ أي خارج الحاضر والراهنية والمشاكل الخطيرة التي يطرحانها، سواء محلية أو كونية.
- سيدي الكريم انتم من الباحثين المتميزين في الفلسفة المعاصرة فلما ذا لا تهتمون بكتابات انطوني نغري واغامبيو وألان باديو ؟
- من قال إنني لا أهتم بهؤلاء، إنهم في صلب اهتمامي، خصوصا وأن هؤلاء يعتبرون من المفكرين المعاصرين الذين كانت لهم إضافات واجتهادات مميزة، سواء بالنسبة للتجديد بالنسبة للماركسية أو العمل على خطى ميشيل فوكو، كما هو الأمر مع أنطوني نغري وفاتيمو. هناك جيل من المفكرين الكبار الذين لا يمكن الاستغناء عنهم أو تجاهلهم، هؤلاء وغيرهم مثل: كوسطاس أكسيلوس وجان بودريار ومرسيا إلياد وجان كليفيتش وميشيل أونفري وحنا أراندت وغيرهم كثيرون، يمثلون تجربة فلسفية فذة وفعالة.
الجزء الثاني
- من الواضح أن دور الفلسفة بعد هيجل أصبح يتجه أكثر فأكثر نحو قضايا الإنسان، وخصوصا قضايا الأخلاق والسياسة. ويبدو هذا جليا في عالمنا المعاصر. أعتقد أن سؤال الحاضر بدأ يطرح منذ كانط وهيجل، لكن لدى هؤلاء كان بعد الزمن غير واضح أو بالأحرى تقليدي أرسطي. مع نيتشه وهيدجر اللذان أدخلا تعديلا جذريا لمفهوم الزمن، أصبح سؤال الفلسفة يتجه بوضوح نحو سؤال الحاضر، لذلك نجد أن الفلسفة المعاصرة تدور كلها حول قضايا الإنسان، سواء مع الفلسفات التي ظلت مرتبطة بالحداثة أو الفلسفات ما بعد الحداثية. هناك تقاطع واضح فيما يتعلق بدور الفلسفة، وأعتقد أن جيل دولوز قد أجاب بشكل جيد على هذا السؤال: الفلسفة هي أولا ابتكار للمفهوم، وثانيا هذا الابتكار هو في علاقة محايثة لمشاكل ملحة تطرح على الفيلسوف. وهذا الأمر كان منذ أفلاطون، فالفلسفة هي نشاط خاص يهدف إلى خلق مفهوم من أجل الإجابة على قضايا مطروحة على مستوى الفكر.
بعد نجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية, فهل نحن قادرون على بناء دول ديمقراطية تعددية.؟
- منذ ثورة سبارتاكوس، لم يثبت أن ثورة ما نجحت فعلا، فبين الشعارات التي ترفعها الثورات وبين ما يحصل على الأرض، هناك هوة كبيرة جدا لم يثبت لا التاريخ ولا العلم أن ثورة ما استطاعت أن تتغلب عليها. الأمر نفسه عبر عنه كانط بمقاله الشهير: " ما هي الأنوار ؟" معلقا ومحللا الثورة الفرنسية. ولما أن كانط كان شديد الحساسية فيما يتعلق بحدود وعتبات العقل، فقد بقي صامتا عشر سنوات قبل أن يعلق على هذه الثورة. إن الذي يحدث في كل ثورة بالتأكيد هو حدث حصولها، وهذا المشهد العام حيث تنقلب كل الأشياء والأوضاع، مع يرافق ذلك من مشاعر الحماس والاستعداد والتفاعل مع الثورة، أما الثورة كحدث متميز، فإنها لا تتضمن أي شيء على الإطلاق، سواء كان شيئا سلبيا أو إيجابيا. هل تؤدي الثورة إلى التقدم ؟ بالتأكيد لا ! فلننظر إلى الثورات التي حصلت في التاريخ البشري: الثورة الفرنسية انتهت إلى ساركوزي، الثورة الإنجليزية انتهت إلى توني بلير، الثورة الأمريكية انتهت إلى بوش، الثورة الروسية انتهت إلى ستالين، الثورات والانقلابات في البلدان العربية خلال الخمسينيات أعطت القذافي وبنعلي وحسني مبارك...الخ.
هناك حديث الآن عن " الربيع العربي "، عن أي ربيع يتحدثون ؟ ثم من أعطى هذا الاسم لما يحصل في العالم العربي ؟ نعرف أن هناك آلة ضخمة جدا تشتغل كآلة حرب عملاقة: إنه الإعلام ! ما نعرفه عما يجري في العالم العربي هو ما تبثه القنوات والإذاعات والصحف، لكن آخر شيئ نعرفه هو تلك الأمور الخطيرة التي تجري في السرية حيث مراكز القرار الدولي. كان بودريار المعبر الفعلي عن هذه الوضعية الهلامية، حينما ألف كتابه: " الحرب العراقية لم تجر " وحينما ابتكر مفهومي " موت الواقع La mort du réel " و" الواقع المفرط L’hyper-réel "
لذلك فأنا آسف جدا أن أزعج القارئ بقولي إنه ليست هناك ثورات ولا هناك نجاح، ولا ربيع ولا شتاء: هناك الحكومية Gouvernementamlité وقد انتظمت دوليا وكونيا ! بناء على ذلك، لا يبدوا لي في الأفق لا تحقيق للديموقراطية ولا تحقيق للتعددية. ما يحصل في العالم العربي أمر أكبر من العالم العربي نفسه، إنه أمر كوني.