Website counter

بحث هذه المدونة الإلكترونية

موقع خاص بالبحث في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية

الجمعة، 13 أبريل 2012

الانتصار على الذات


أنتم تسمونها إرادة الحقيقة تلك القوة التي تلهبكم، يا مجمع الحكماء ؟

إرادة أن تعقلوا كلما هو وجود: هذا هو الاسم الذي أطلقه على إرادتكم.

تريدون أن تجعلوا كل ما في الوجود قابلا للإدراك: ذلك أنكم تشكون بحذر مبرر أن يكون قابلا للإدراك فعلا.

ولكن يتوجب عليكم إخضاعه وثنيه على السجود أمامكم ! ذلك ما تريده إرادتكم. تهذيبه وإخضاعه للفكر وكأنه مجرد مرآة وانعكاس للفكر.

هنا تكمن كل إرادتكم، يا أعظم الحكماء: إنها إرادة قوة، حتى عندما تتكلمون عن الخير والشر وعن أحكام القيمة.

لازلتم تصرون على اختلاق العالم الذي يمكنكم السجود له: ذلك هو أملكم الأكبر ونشوتكم القصوى.

أما دونكم من العامة فهو كالنهر الذي يسبح فوقه القارب، حيث تجلس فيه قيمكم الصارخة والمتنكرة.

رميتم نهر الصيرورة بإرادتكم وقيمكم: وقد انكشف لي إرادة قوة ما ظنه العامة خيرا وشرا، وإذا بها إرادة قوة أزلية. إنكم أنتم، يا أعظم الحكماء، الذين أقمتم هؤلاء الضيوف المبجلين في القارب، وزينتموهم ومنحتموهم أسماء جليلة، أنتم وإرادتكم السائدة !

والآن يظل النهر يوجه قاربكم إلى الأمام، فهو مجبر على ذلك. ولا أهمية للأمواج التي تزبد وهي تنكسر على أطراف القارب، وتصطم به في عنف.

ليس الخطر كامنا في النهر، وليس فيه نهاية خيركم وشركم، يا أعظم الحكماء، وإنما الخطر في تلك الإرادة ذاتها: إرادة القوة، إرادة الحياة الخلاقة التي لا تنفد.

لكن، ولكي تدركوا معاني كلمتي عن الخير والشر، أقول لكم كلمتي هذه أيضا عن الحياة وعن طبيعة كل ما هو حي.

لقد تتبعت مسار الكائن الحي، وسرت في الطرق أكبرها وأصغرها لكي أعرف طبيعتها.

وبينما كان فم الكائن الحي صامتا، أدركت نظرته بمرآتي ذات المائة وجه، حتى نطقت أعينه وتحدثت إلي بالفعل.

كلما وجدت كائنا حيا، سمعت حديث الطاعة. فكل ما هو حي مطيع.

وهذه كلمتها الثانية: فمن لا يعرف كيف يطيع ذاته، يأمره غيره، فتلك هي طبيعة الأحياء.

وهاك ثالث ما سمعت: إن الأمر لهو أخطر من الطاعة. ليس ذلك لأن الآمر يحمل على عاتقه حمل كل المطيعين، وأن هذا الحمل يكاد يدمره فحسب: بل لأن في كل أمر مغامرة ومخاطرة؛ وكلما كان الحي آمرا، كان في ذلك مخاطرا بنفسه.

أجل، فحتى عندما يأمر ذاته، فعليه أيضا أن يتحمل عاقبة أمره، وعليه أن يكون القاضي والمنتقم والضحية لقانونه الخاص.

سألت نفسي: كيف يحدث كل هذا إذن ؟ وما الذي يدفع الحي إلى أن يطيع ويأمر، ويكون طيعا حتى عندما يأمر ؟

فانصتوا الآن إلى كلمتي، يا أعظم الحكماء ! واختبروني بدقة لتروا ما إذا كنت قد سبرت أغوار الحياة حتى قلبها، وحتى أعمق أعماق هذا القلب !

أينما وجدت كائنا حيا، وجدت إرادة قوة؛ بل إني وجدت في إرادة العبودية ذاتها رغبة الكائن الحي في السيادة.

واستسلام الضعيف للقوي أمر تحضه عليه إرادته المتحكمة فيمن هم أضعف منه: فهذه هي النشوة التي لا يمكن أن يزهد فيها.

وكما يستسلم الأصغر للأكبر كي يستمتع به ويسيطر عليه: كذلك يستسلم الأكبر بدوره، ويقامر بحياته حبا في القوة.

ذلك هو استسلام الأكبر، الذي هو مغامرة ومخاطرة ومقامرة على الموت.

وحيثما تجد تضحية وتفانيا ونظرات حب: فهناك أيضا تكون إرادة السيطرة من أجل السيادة. إنما يتسلل الأضعف بمكر مخترقا القلعة داخل قلب الأقوى لسلبه القوة.

وهذا هو السر الذي أسرت به الحياة إلي: انظر، إنني ذلك الذي ينبغي أن يعلو دواما على نفسه.

حقا، أنتم تسمونها إرادة إنجاب أو غريزة الوصول إلى الغايات الأعلى والأبعد والأعقد: غير أن هذا كله ليس سوى شيئا واحدا وسرا واحدا.

إنني لأفضل الهلاك على التخلي عن هذا الشيئ الفريد. والحق أنه حيثما يكون الهلاك وسقوط الأوراق، فإن هناك تضحي الحياة بذاتها من أجل القوة !

فليكن واجبا علي أن أكون صراعا وصيرورة وغاية ونقيض الغاية: واعجباه ! إن من يعرف إرادتي، يعرف جيدا تلك الطرق الملتوية التي ينبغي عليه أن يسير فيها !

مهما كان ما أخلقه ومهما كان قدر حبي له، فإنه يجب علي أن أصير عدوه وعدو حبي له: فهكذا تشاء إرادتي.

وحتى أنت أيها القارئ الباحث عن المعرفة، لست إلا طريقا وأثرا لأقدام إرادتي: والحق أن إرادة القوة في تسير بدورها في أعقاب إرادة الحقيقة فيك !

قد جانبه الصواب ذلك الذي أراد الوصول إلى الحقيقة بحديثه عن إرادة الحياة: فليس ثمة إرادة كهذه !

ذلك أن ما لا يحيا لا يريد، أما ذلك الذي يحيا، فكيف تتجه إرادته إلى الحياة ؟

لا تكون الإرادة إلا حيث تكون الحياة: غير أن هذه ليست إرادة حياة، ولكن، اعلم مني أنها إرادة القوة.

إن الحي ليقدر أشياء عديدة أكثر من تقديره للحياة ذاتها؛ غير أن ما يعبر عن نفسه خلال هذا التقدير ذاته هو إرادة القوة !

هذا ما أذكر أن الحياة أسرت لي به ذات مرة، ومن هنا أمكنني، يا أعظم الحكماء، أن أفسر لكم لغز قلوبكم.

إنما أقول لكم: إنه ليس ثمة خير أو شر دائم ! بل إن عليهما أن يعلوا دواما على نفسيهما.

أنتم تمارسون عنفكم يا صانعي القيم، بما تصدرونه من قيم ومن أقوال عن الخير والشر: ذلك هو حبكم الخفي، وذلك هو النور والرعشة والفيض الذي يغمر نفوسكم.

غير أن قيمكم تولد كذلك قوة أعظم وانتصارا جديدا يكسر البيضة وقشرتها.

والحال، أن من كان عليه أن يكون خالقا في مجال الخير والشر، عليه أولا أن يكون محطما وهادما للقيم.

ومن هنا فالشر الأكبر ينتمي إلى الخير الأكبر: أعني إلى الخير الخالق.

فلنركز حديثنا على هذه الأمور، يا أعظم الحكماء، حتى لو كان ذلك فظيعا؛ ذلك لأن السكوت أسوأ، والحقائق التي لا نجهر بها تغدو سامة. فليتحطم إذن كل ما يحطم أمام حقائقنا ! فأمامنا صروح عديدة للبناء !

هكذا تكلم زرادشت

Nietzsche F : « Ainsi parlait Zarathoustra » Trad. Marthe Robert, éd. 10/18, France, 1985, pp 106-1109

ترجمة: الدكتور أحمد الطريبق

ليست هناك تعليقات:

المتابعون

من أنا