Website counter

بحث هذه المدونة الإلكترونية

موقع خاص بالبحث في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية

السبت، 20 أكتوبر 2012

حوار خاص مع الدكتور أحمد الطريبق (أجراه نورالدين علوش)





مرحبا بكم على هذا الموقع
الجزء الأول
بداية من هو الدكتور أحمد الطريبق ؟
-  من مواليد مدينة تطوان سنة 1955، أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين، أستاذ كذلك بماستر فلسفة التواصل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان. درست بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس- أكدال – الرباط حيث حصلت على الدكتوراه في الفلسفة.
 سيدي الكريم انتم من الباحثين المتخصصين في فلسفة نيتشه وهيدغر فما هي الأسباب والدواعي؟
-
مع بداية السبعينيات، كان الفكر الماركسي هو التيار السائد في العالم، بالإضافة إلى حضور مهم لفلسفة سارتر. بيد أن الفكر الماركسي كان مرتبطا بحركات التحرر في العالم التي كانت موجودة على الأرض كحركات سياسية. انتقل هذا التأثير إلى المغرب، وقد كنت من أولائك الشباب الذين انضموا إلى هذه الحركة، أي أنني تعرفت على الماركسية داخل هذا السياق. غير أن هذه الماركسية لم تكن في الواقع سوى كتابات ونصوص صيغت داخل الآلة الإعلامية السوفيتية، وكذا الآلة الإعلامية الصينية، وبالتالي فإن هذه الماركسية لم تكن سوى ماركسية السوفيات والصين، فقد كانت بعيدة تماما عن الماركسية كما طرحها كارل ماركس ضمن إشكالية تتعلق بنقد المثالية الألمانية وخصوصا هيجل، والبحث عن شروط تغيير الواقع الإنساني في سياق التدهور الحاد الذي كانت تعرفه أوروبا على مستوى الاقتصاد والعلاقات الإنسانية. بالنسبة لي، كما بالنسبة للجيل الذي أنتمي إليه، فإن الماركسية التي اعتقدنا أننا ننتمي إليها لم تكن سوى ماركسية باهتة بدون نفس فلسفي.
التحاقي بجامعة محمد الخامس بشعبة الفلسفة، كان في الواقع هو الفرصة التي سمحت لي بالدخول إلى مجال البحث الفلسفي في صيغته الأكاديمية المستوفية لشروط البحث العلمي الجامعي؛ كانت الجامعة فضاء حيويا نشيطا مملوء بالحيوية وروح التجديد والحضور القوي للفكر الفلسفي النقدي في اتجاهات متعددة ومتنوعة. كان هذا في الواقع نقطة تحول بالنسبة لمساري العلمي.
 كان أول تغيير بالنسبة لي، هو قراءتي لنيتشه ومارتن هيدجر، وكذا قراءتي الجادة لماركس وامتداداته مع ألتوسير وغيره من القراء الجدد لماركس، وعلاقة هذا الأخير بهيجل وفيورباخ والمثالية الألمانية عموما. بعبارة أخرى أصبحت علاقتي بالفلسفة علاقة منفتحة ونقدية ومتحررة من الدوغمائيات والأفكار المسبقة. في الواقع، لا يكون الفكر الفلسفي ممكنا إلا داخل سياق الحرية والتخلص من المطلقات والانغلاق. أما عن اهتمامي بفكر نيتشه وهيدجر، فإنه يرجع إلى الأهمية البالغة لهذين الفيلسوفين من حيث كونهما استطاعا أن يغيرا أساس الفكر الفلسفي الذي ساد منذ الإغريق إلى هيجل. إنهما علامتان فارقتان في تاريخ الفكر الفلسفي، أي أنهما أخرجا الفكر الفلسفي من الحداثة، حيث كانت غارقة في أوحال الميتافيزيقا وفلسفات الأصل والتعالي والجوهر والحضور والذات ... الخ، إلى عالم أرحب للفكر القائم على الحركة والقوة والنسبية والمحايثة. في الواقع هذا الانتقال في الفلسفة يوازيه ذلك الانتقال الذي حصل من جاليلي ونيوتن إلى أنشتاين، كما يوازيه الانتقال من المجتمعات الصناعية إلى المجتمعات ما بعد الصناعية؛ لم يعد الفكر قادرا على الاستمرار في الأفق الذي رسمته الحداثة وخصوصا هيجل.
وإذا أردنا أن نعطي مثالا على ذلك، أقول، إن التأويل في فكر الحداثة كان يعني البحث عن أول الأشياء والحقائق، أي أصلها وجوهرها، بينما التأويل في فلسفة ما بعد الحداثة أصبح يعني البحث اللانهائي عما أسس لحقيقة ما، وهنا ينتفي تماما مفهوم الأول والأصل والجوهر، فالتأويل هو هذا البحث الجنيالوجي الذي يتعقب الحقائق بوصفها إنتاجات وبناءات لإرادات لامنتهية للقوة. أعتقد أنه من الصعب التفكير خارج المنظورية الفكرية التي أسسها كل من نيتشه وهيدجر؛ من هنا كان اهتمامي بأعمالهما. أما بخصوص مسألة أنني من المتخصصين في نيتشه وهيدجر، فأنا لا أدعي ذلك، لسبب بسيط هو أنني غير مهتم بهذا الأمر.
سيدي الكريم هناك الكثير من الباحثين العرب يجتنبون هيدغر بسبب الصعوبات التي تواجههم أثناء الاشتغال على المتن الهيدغري، وخاصة كتابه العمدة" الوجود والزمان" كيف تتمكنون من تجاوز هذه الصعوبات؟
-
 البحث في فكر هيدجر يطرح مشكلات كثيرة وصعبة: 1- فكر هيدجر هو مساءلة لكل التراث الفلسفي منذ الأسطورة الإغريقية إلى هيجل، إنه تفكيك دقيق له ولكل ما تضمنه من مفاهيم وقضايا ميتافيزيقية. 2- فكر هيدجر هو إعادة بناء لطريق الفكر أو للفكر بوصفه طريقا. 3- إنه يسائل من جديد مسألة اللوغوس وحدودها القصوى الممكنة. 4- تتجه أعمال هيدجر نحو السؤال الأصعب والأعقد: سؤال الإنسان وسؤال التقنية بوصفها إرادة الإرادة Le règne du vouloir. فهذه الأمور، على سبيل المثال لا الحصر، تضع الفكر المعاصر أمام ثقل كل التراث الفكري البشري. في المقابل نجد أن الباحثين العرب ظلوا منذ قرون مسجونين داخل إشكاليتين: السياسة والعقيدة. وبالتالي فلم تتح لهم الفرصة الكافية للتفكير بحرية خارج هذه الإكراهات.
من جهة ثانية، فإن أعمال هيدجر وصلت متأخرة بسبب أن العالم العربي لم يكن على احتكاك بالثقافة الألمانية في لغتها الأصلية، ولما أن أعمال هيدجر وصلت من خلال ترجمة الفرنسيين الذين تأخروا بدورهم في ترجمة أعماله، فقد ظل هيدجر غير معروف لدى المثقفين العرب، لسببين: مشكلة الترجمة – مشكلة " الحاجة " إلى هيدجر في ظل هيمنة إشكاليتي السياسة والعقيدة. بالإضافة إلى ما سبق، أقول إن العالم العربي لحد الآن غير قادر على تقبل فكر هيدجر، هناك هوة كبيرة جدا تصعب معالجتها، ذلك أن فكره يتميز بجذرية كبيرة يصعب على فكرنا تقبلها، فالفكر العربي مشحون بالمسلمات والقطعيات، لاسيما وأننا نعيش في ظروف تغلب عليها المواجهة السياسية والنزاعات الجهوية والدولية. مما يجعل المذاهب الأكثر شيوعا هي تلك التي لا يهمها السؤال الفلسفي بقدر ما يهمها قضايا السياسة.
بالنسبة لي، أجد في فكر هيدجر، الأدوات المفاهيمية الأكثر فعالية لفهم ما يجري على الصعيد السياسي؛ فهيدجر، وهو يتناول مسألة الإنسان والتقنية، يجعلني أنظر إلى ما يحصل في العالم من خلال منظورية أكثر اتساعا وقدرة على فهم هذا الذي يحصل هنا والآن. لا نستطيع أن نجد مكانا في العالم المعاصر إلا إذا نظرنا إلى هذا الأخير من زاوية الكونية والمصير المشترك للبشرية جمعاء. أن أتساءل عن الوجود والزمن معناه أن أنخرط في الراهن وأضع نفسي في قلبه، بدل الهروب والاختباء في هوية عمياء يطبعها التوحش والانفصال عن الوجود والزمن الراهنين. بهذا المعنى، ففكر هيدجر فكر كوني يهم البشر جميعا، كما هو حال كل خطاب فلسفي أصيل ينأى بنفسه عن فكر التطابق القطيعي.
ينسحب الأمر أيضا على فكر نيتشه، من المعروف أن نيتشه كان غريبا حتى في عصره، وهو يعبر عن هذا بنفسه في كتابه " هذا الرجل Ecce Homo "، حيث يعبر بوضوح عن العزلة التي كان يشعر بها، فيما عدا علاقته المتميزة مع بول ري Paul Rée، بمعنى أن نيتشه لم يكن له قراء في عصره، ولم يكن فكره قابل للقراءة. مشروع نيتشه في أساسه هو نقد الحداثة، فهذا هو الإكراه والموضوع الرئيس لديه. ذلك أن الحداثة ظلت في نظره، محصورة بين لاهوت القرون الوسطى وميتافيزيقا أفلاطون، فهي في نظره أفول لأصلية الإنسان التي كانت ممثلة في التراجيديا الإغريقية، حيث كان الإنسان صانع الحقيقة وصاحب الإرادة في ذلك. الحداثة هي انتكاسة لأصالة الإنسان وتيه في عالم الثنائيات والأصنام. الخطوة الأولى بالنسبة لنيتشه استرجاع لهذه الأصالة، والإقرار بأنه لا حقيقة تعلو على الحقيقة التي يصنعها الإنسان المجبول على إرادة القوة.
شوهت الحداثة أصلية الإنسان وحولته إلى حيوان أليف، وبذلك صارت أكبر كذبة صنعها البشر، والمسؤولية في ذلك تعود إلى أفلاطون والمسيحية. ومن ثمة وجب التفكير في تصحيح المسار وفضح الأكاذيب وكل القيم الزائفة التي كبلت الإنسان وأساءت إلى قدره. والحال أن السماء، خصوصا في القرن التاسع، قد فقدت بريقها وهيمنتها وانتهى عهدها وصار على الإنسان أن يغير هذا الوضع، بأن يتحمل مسؤولية قدره، وهذا عند نيتشه هو الإنسان الأعلى. يستلزم هذا هدم كل الأكاذيب والأوهام التي بنيت، والتوجه نحو بناء الإنسان الذي يعلم أن الحياة والسياسة والاقتصاد والعلم ... الخ هي من صنعه، ولا توجد حقيقة فوق ما يستطيعه الإنسان، وما يستطيعه الإنسان أمر تحضه عليه طبيعته القائمة على إرادة القوة.
من الواضح إذن أن فكر كهذا كان يمثل حاجة ملحة لدى الغرب في القرن التاسع عشر (عبر عنه آخرون على طريقتهم: فيورباخ وماركس ...) لذلك فإن العالم العربي الذي أفل نجمه منذ القرن الرابع عشر، وأصبح يعيش فقط على رد الفعل: العقيدة والسياسة، لم يكن قادرا ولا مهتما بهذه الإكراهات والحاجيات، لأن حاجياته كانت التحرر السياسي من الاستعمار والاحتماء بسبب ذلك في عقيدة تكون الواجهة السياسية له. كان العرب إذن خارج الحداثة، فكيف لهم أن يقرءوا نيتشه ويفهموه إلا بعد الحرب العالمية الثانية؛ وقد كان هيدجر من أول القراء لنيتشه. ومن ثمة انفتح لدى الفكر الغربي الطريق إلى نيتشه منذ بداية الخمسينيات. هذا الانفتاح لم يجد صداه في العالم العربي لحد الآن، إذا استثنينا الدائرة الضيقة جدا لبعض المثقفين. الصعوبة إذن في قراءة المتن النيتشوي لا تعود فقط إلى طبيعة المتن(أسلوب الكتابة وفكر الشذرات) بل إلى طبيعة الحاجة التي كانت وراء ظهور نيتشه نفسه، أي نقد الحداثة طولا وعرضا.
ما حصل بعد الحرب العالمية الثانية من هيمنة مطلقة للتقنية وتدهور أحوال الإنسان السياسية والأخلاقية، وظهور العولمة كأفق جامع وقاهر للإنسانية جمعاء، جعل العالم يتشكل من جديد تحت نفس الحاجيات والإكراهات: التحرر، مواجهة التقنية، العدالة الاجتماعية، مواجهة مختلف أشكال الإيديولوجيات، مواجهة الرأسمالية المتطرفة التي أصبحت آلة لإنتاج الفقر والحروب في العالم.
هذه الأمور على سبيل المثال لا الحصر، جعلت التفكير يتجه نحو نيتشه وهيدجر اللذان أصبحت أفكارهما بمثابة المطرقة التي تمكن من الهدم وإعادة البناء: هدم الأصنام وبناء فكر جذري لا يعرف الثبات، ولا يكل من النقد ومطاردة الأوهام التي تعيق حياة البشر في العالم المعاصر. فقراءة الغرب الأوروبي لنيتشه وهيدجر أرخت بظلالها على عالمنا العربي، الذي لا يزال تائها بين ماض يفترض أنه الأصل ومستقبل يفترض أنه تحرر من الماضي باللجوء الساذج إلى التقنية، كل هذا دون القدرة على طرح السؤال الجذري: ما هي حقيقتنا في هذه الراهنية التي نحن فيها مجرد أشباح، أو إن شئتم مجرد " موظفين أشباح " ؟ هذا السؤال استعاده من جديد مفكري الغرب، بينما ظلت ثقافتنا غير قادرة على طرحه ولا حتى التفكير فيه. من يجرأ في عالمنا هذا أن يطرح السؤال الجذري حول ثقافتنا وحضارتنا ؟ من يستطيع إنجاز الهدم والبناء ؟ لازالت حضارتنا تطرح السؤال الغبي حول الجمع بين الأصالة والمعاصرة، بدل أن نتوجه نحو الأوهام والأصنام هنا والآن ؟
 بالنسبة للقارئ المتخصص، لا أعتقد أن هناك صعوبة كبيرة في تناول المتن النيتشوي أو الهيدجري، في الواقع، حينما يتعلق الأمر بقراءة أعمال أي فيلسوف، فإن المشكل الذي يعترض القارئ، هو عدةdispositif المفاهيم التي يستعملها هذا الفيلسوف والتي تبدو في البداية غير متناغمة وغير ذات معنى معين؛ لكن حينما يقطع القارئ مسافة طويلة في المتن الفلسفي، فإنه يبدأ في تلمس شكل التناغم وعلاقة ذلك بالمتون الفلسفية الأخرى. هذا من جهة، من جهة أخرى، فإن فهم القارئ لمتن فلسفي يعود، كما سبق أن قلت، إلى الحاجة الملحة التي تدفعه لقراءة متن فلسفي بعينه. فحينما نريد قراءة هيدجر، ينبغي أن تكون هناك حاجة ملحة تدفع إليه، وإلا فإن القراءة نفسها تكون غير ذات معنى، وهذا بالضبط ما يقصده مارتن هيدجر بمفهوم " الطريقChemin "
لن نتمكن من قراءة متن فلسفي إلا إذا كنا نبحث عن أمر ما. فنحن لا نذهب إلى متن فلسفي إلا تحت إكراه البحث عن أمر معين، سيكون من العبث أن يقول المرء: أنا سأقرأ هذا المتن لأنه سيؤنسني أو سأستمتع به. أن أقرأ متن فلسفي معناه أن أضع نفسي في طريق معينة للفكر كما يقول هيدجر. ورجوعا إلى عالمنا العربي، فإنه ليس هناك وعي بطريق هيدجر، وليس هناك بالتالي إحساس بالحاجة إليه، وهذا هو أخطر ما يمكن أن يعاني منه فكر معين أو حضارة معينة. إذا استثنينا أوساط بعض النخب المثقفة المحدودة في عددها، فإن حضارتنا غير قادرة لحد الآن على مقاربة فكر هيدجر. بل إن الأسوأ هو أن مجتمعاتنا لازالت تتحدث عن الحداثة والتحديث ! يعني هذا أننا خارج طريق الفكر وليس فقط خارج متن هيدجر.


-
 لماذا نجد حضورا كبيرا لرمو ز فلسفية( دريدا وفوكو...) تمثل مدرسة ما بعد الحداثة في الفلسفة العربية المعاصرة وغياب رموز حداثية أمثال هابرماس في المشهد الفلسفي العربي ؟

-
يفترض السؤال أن فكر فوكو وديريدا حاضر فعلا، وأنه في المقابل، فإن فكر هابرماس غير حاضر، وهذا غير صحيح. من المؤكد أن الفضاء الجامعي كان، منذ السبعينيات منفتحا بشكل جيد على كل هذه التجارب الفلسفية، وهذا ما يفسر أن الفضاء الجامعي كان دائما هدفا للقمع والاعتقال والمحاصرة والمنع، ومع ذلك فإن الفضاء الجامعي غير كاف لكي يدخل المجتمع في دائرة هذه التجارب الفلسفية.
نلاحظ مثلا أن مجتمعاتنا السياسية ونخبها لا تزال تتحدث عن تحديث المجتمع وبلوغ الحداثة وبناء دولة المؤسسات والديموقراطية ... مثل هذه القضايا غير مطروحة تماما في فكر فوكو ولا في فكر ديريدا ... الخ الأمر الذي يبين إلى أي حد نحن خارج الراهنية ! مازال سياسيونا يتحدثون عن السلطة بالمعاني التي تحدث عنها روسو ومونتيسكيو وفيبر وماركس ... الخ ويستمر المنظرون السياسيون في الحديث بدون ملل عن دولة الحق والقانون والحكامة الجيدة والشأن العام، وكأننا نعيش في القرن الثامن عشر !؟ أي خارج الحاضر والراهنية والمشاكل الخطيرة التي يطرحانها، سواء محلية أو كونية.
 طرح أسئلة فوكو في عالمنا يعني مثلا طرح الأسئلة التالية: ما هي تاريخيتنا علاقة بالأخلاق والحقيقة والسلطة ؟ ما هي طبيعة وشرعية هذه القواعد القانونية والأخلاقية والسياسية والعلمية ... الخ التي نعمل بها ونعتبرها حقيقتنا ؟ ما هي منزلة الذوات عندنا داخل مجال أنظمة السلطة والمجتمع والأخلاق ؟ لحد الآن، لا يوجد من يطرح مثل هذه الأسئلة، ليس لأن متن فوكو أو غيره صعب أو سهل، بل لأن هذا المتن محايث لراهنية كونية نحن لسنا فيها ولا نفكر فيها، بل إن حضاراتنا غير مؤهلة للانخراط فيها.

-
 سيدي الكريم انتم من الباحثين المتميزين في الفلسفة المعاصرة فلما ذا لا تهتمون بكتابات انطوني نغري واغامبيو وألان باديو ؟
 
-
 من قال إنني لا أهتم بهؤلاء، إنهم في صلب اهتمامي، خصوصا وأن هؤلاء يعتبرون من المفكرين المعاصرين الذين كانت لهم إضافات واجتهادات مميزة، سواء بالنسبة للتجديد بالنسبة للماركسية أو العمل على خطى ميشيل فوكو، كما هو الأمر مع أنطوني نغري وفاتيمو. هناك جيل من المفكرين الكبار الذين لا يمكن الاستغناء عنهم أو تجاهلهم، هؤلاء وغيرهم مثل: كوسطاس أكسيلوس وجان بودريار ومرسيا إلياد وجان كليفيتش وميشيل أونفري وحنا أراندت وغيرهم كثيرون، يمثلون تجربة فلسفية فذة وفعالة.

الجزء الثاني
 سدي الكريم بعد الربيع العربي المبارك، ما هو دور الفلسفة اليوم ؟

-
 من الواضح أن دور الفلسفة بعد هيجل أصبح يتجه أكثر فأكثر نحو قضايا الإنسان، وخصوصا قضايا الأخلاق والسياسة. ويبدو هذا جليا في عالمنا المعاصر. أعتقد أن سؤال الحاضر بدأ يطرح منذ كانط وهيجل، لكن لدى هؤلاء كان بعد الزمن غير واضح أو بالأحرى تقليدي أرسطي. مع نيتشه وهيدجر اللذان أدخلا تعديلا جذريا لمفهوم الزمن، أصبح سؤال الفلسفة يتجه بوضوح نحو سؤال الحاضر، لذلك نجد أن الفلسفة المعاصرة تدور كلها حول قضايا الإنسان، سواء مع الفلسفات التي ظلت مرتبطة بالحداثة أو الفلسفات ما بعد الحداثية. هناك تقاطع واضح فيما يتعلق بدور الفلسفة، وأعتقد أن جيل دولوز قد أجاب بشكل جيد على هذا السؤال: الفلسفة هي أولا ابتكار للمفهوم، وثانيا هذا الابتكار هو في علاقة محايثة لمشاكل ملحة تطرح على الفيلسوف. وهذا الأمر كان منذ أفلاطون، فالفلسفة هي نشاط خاص يهدف إلى خلق مفهوم من أجل الإجابة على قضايا مطروحة على مستوى الفكر.
 لم تعد مسألة الخطأ والصواب تكتسي أهمية، بل أصبحت من بقايا الفهم الميتافيزيقي للحقيقة؛ ما يهم اليوم هو البحث عن علاقة الحقيقة بالمشاكل التي تتناولها والكيفية التي تحدد بروز الحقائق. هذا مثلا ما قام به فوكو، خصوصا في كتابه " الكلمات والأشياء ". ما الذي يجعل الحقيقة تأخذ صفة الحقيقة ويجعل الفكر البشري يتعامل معها على أنها كذلك ؟ هذا من ناحية المنظورية الفلسفية، أما من ناحية القضايا، فمن الواضح أن الإنسان أصبح اليوم هو الموضوع الأساس للفلسفة، بالإضافة إلى قضايا: التأويل والشرعية والعدالة والسلطة والأخلاق والذوات... الخ. وبتعبير فوكو نفسه، دور الفلسفة هو الاستشكال Problématisation أي البحث في وعن القواعد التي تجعل نسقا من المشاكل والحقائق يطفوان كممارسة خطابية على صعيد التفكير البشري.
 
بعد نجاح الثورات العربية في إسقاط الأنظمة الاستبدادية, فهل نحن قادرون على بناء دول ديمقراطية تعددية.؟

-
 منذ ثورة سبارتاكوس، لم يثبت أن ثورة ما نجحت فعلا، فبين الشعارات التي ترفعها الثورات وبين ما يحصل على الأرض، هناك هوة كبيرة جدا لم يثبت لا التاريخ ولا العلم أن ثورة ما استطاعت أن تتغلب عليها. الأمر نفسه عبر عنه كانط بمقاله الشهير: " ما هي الأنوار ؟" معلقا ومحللا الثورة الفرنسية. ولما أن كانط كان شديد الحساسية فيما يتعلق بحدود وعتبات العقل، فقد بقي صامتا عشر سنوات قبل أن يعلق على هذه الثورة. إن الذي يحدث في كل ثورة بالتأكيد هو حدث حصولها، وهذا المشهد العام حيث تنقلب كل الأشياء والأوضاع، مع يرافق ذلك من مشاعر الحماس والاستعداد والتفاعل مع الثورة، أما الثورة كحدث متميز، فإنها لا تتضمن أي شيء على الإطلاق، سواء كان شيئا سلبيا أو إيجابيا. هل تؤدي الثورة إلى التقدم ؟ بالتأكيد لا ! فلننظر إلى الثورات التي حصلت في التاريخ البشري: الثورة الفرنسية انتهت إلى ساركوزي، الثورة الإنجليزية انتهت إلى توني بلير، الثورة الأمريكية انتهت إلى بوش، الثورة الروسية انتهت إلى ستالين، الثورات والانقلابات في البلدان العربية خلال الخمسينيات أعطت القذافي وبنعلي وحسني مبارك...الخ.
هناك حديث الآن عن " الربيع العربي "، عن أي ربيع يتحدثون ؟ ثم من أعطى هذا الاسم لما يحصل في العالم العربي ؟ نعرف أن هناك آلة ضخمة جدا تشتغل كآلة حرب عملاقة: إنه الإعلام ! ما نعرفه عما يجري في العالم العربي هو ما تبثه القنوات والإذاعات والصحف، لكن آخر شيئ نعرفه هو تلك الأمور الخطيرة التي تجري في السرية حيث مراكز القرار الدولي. كان بودريار المعبر الفعلي عن هذه الوضعية الهلامية، حينما ألف كتابه: " الحرب العراقية لم تجر " وحينما ابتكر مفهومي " موت الواقع La mort du réel " و" الواقع المفرط L’hyper-réel "
 ما يسمى بالربيع العربي هو نموذج لموت الواقع وللواقع المفرط. فلننصت إلى مفكرين كبار مثل تشومسكي وما يقوله عن الربيع العربي، لننصت إلى ما قاله المحامي فرجيس والصحفي المفكر ميشيل كولون وكذا المفكر الفرنسي إيمانويل طود عما حصل في ليبيا ولم تشأ أن تلتقطه الآلة الإعلامية. هناك بالتأكيد أمور عظيمة تحصل، لكن ما هي هذه الأمور ؟ لنتأمل هذه اللوحة من التحالفات والحلفاء الذين يدعون للتدخل في سوريا حماية للديمقراطية: من الشيخ الجليل القرضاوي إلى أيمن الظواهري مرورا بوزارة الخارجية الأمريكية !؟ أي عقل هذا الذي يمكن أن يتحمل هذه المفارقات؟ لماذا لم تصوب الكاميرات نحو البحرين وغيرها ؟
 كتب تشومسكي مقلا في غاية الأهمية عن الاستراتيجيات العشر التي يعتمدها الإعلام في تضليل الرأي العام والتحكم فيه، بقراءتنا لهذا المقال يجب أن نخجل من الحديث عن الربيع العربي. ولنحاول أن نتتبع الأحداث نفسها وكيف تداع في القنوات المختلفة. لن نجد سوى سلسلة من الصور ورسائل موجهة لمشاعر البشر وعواطفهم وغفلتهم عن تقنيات الإعلام. لكن إذا ابتعدنا قليلا عن صخب القنوات والإعلام ومهارته، فإننا سنجد أنفسنا أمام السؤال الجذري: ما الذي يحصل ؟ وإذا أردنا فعلا أن نعرف ما يحصل علينا مسح الكاميرات والذهاب إلى الثنايا حيث تقبع الحقائق السامة التي لا نراها، علينا أن نفكر انطلاقا من مفاهيم مثل: ميكروفيزياء السلطة، والبيوسياسة (فوكو) ومفهوم العدو(كارل شميث) ومفهوم الإرهاب(ديريدا) ومفهوم الثنايا(دولوز).
لذلك فأنا آسف جدا أن أزعج القارئ بقولي إنه ليست هناك ثورات ولا هناك نجاح، ولا ربيع ولا شتاء: هناك الحكومية Gouvernementamlité  وقد انتظمت دوليا وكونيا ! بناء على ذلك، لا يبدوا لي في الأفق لا تحقيق للديموقراطية ولا تحقيق للتعددية. ما يحصل في العالم العربي أمر أكبر من العالم العربي نفسه، إنه أمر كوني.
 وبالعودة إلى مسألة الثورة أقول، إذا كانت الثورات تنتهي دائما بالفشل، فهذا لا يمنع ولن يمنع إطلاقا الواقع المحايث للإنسان، وهو أن هذا الأخير يوجد حتما في سيرورة ثورية، والبشر والأفراد محكومون دوما بالانتماء إلى سيرورات ثورية، فالأمر هنا وجودي محايث للإنسان. يضطر الإنسان حينما يهدد في حياته ورغباته إلى الثورة سواء أدت إلى نتيجة سلبية أم إيجابية.
في الواقع، لقد اكتشف فوكو مفهوما أكثر فعالية وواقعية من مفهوم الثورة: إنه مفهوم " المقاومة " شريطة أن نفهم ذلك بالمعنى الواسع للكلمة. فالمقاومة تبدأ من الحالة الأكثر بساطة حينما يرفض الفرد(أو الجماعات) وضعا معيقا لحياته. المقاومة تبدأ من التعبير بكلمة " لا " أمام شيئ مضر أو معيق وتنتهي طبعا إلى أضخم أشكال التمرد حينما يتغير نسق السلطة دون أن يلغى نهائيا، بل على العكس، إن المقاومة تتغذى وتتقوى من السلطة لأنها جزء منها: نعم، المقاومة جزء من السلطة وليست طرفا خارجيا لها. لذلك ولكي لا تكون ذقوننا من الذقون التي يضحك عليها، يجب أن نكف عن الحديث عن الثورات العربية والربيع ...الخ. من ناحية أخرى ألسنا مطالبين بالتفكير في مسألة الديمقراطية والتعددية ؟
هل انتم متفقون مع القائلين بان المستفيد الوحيد من الربيع العربي هم الإسلاميون ؟
 - هنالك مبدأ كوني يتفق عليه جل من في الكون، وهو مبدأ احترام الأديان مهما كانت وأيا كانت. انسجاما مع هذا المبدأ يجب احترام الدين الإسلامي كذلك، ومن ثمة فإنه ينبغي الفصل بين الحركات السياسية التي تتخذ الدين الإسلامي شعارا لها وبين الدين الإسلامي كعقيدة تتعلق بالأفراد وروحانيتهم. وحينما نقول إن الإسلاميين هم من استفادوا من " الثورات العربية "، فإننا نقع في مغالطات متعددة: إننا نربط بين العقيدة الإسلامية التي تهم مئات الملايين من سكان الأرض بحركات سياسية لها برامج سياسية، وفي هذه الحالة فنحن نعتقد أننا نمنح الدين كل شيء في حين أننا بهذا نسلبه كل شيء. من في هذا الكون يستطيع أن يدعي بأنه الممثل الوحيد والأوحد للدين الإسلامي ؟ إننا نقحم الدين في السياسي، وهذا يمس بالدين نفسه المعروف بكونه رسالة كونية. وهذا ما يفسر أن كل حركة " إسلامية " تسحب الشرعية عن الحركات " الإسلامية " الأخرى. لدرجة أن النزاع بين هذه الحركات أصبح أمرا منهكا للعالم وللشعوب كذلك. حتى أن قوى عظمى أصبحت طرفا فيه لصالح جماعة ضد أخرى. وقد أضيف إلى لهذا الخلط، خلط آخر: العلمانيون والإسلاميون والسنة والشيعة والمعتدلون والمتطرفون والعرب وغير العرب ... الخ، ألا يدعو هذا للتفكير ؟ ما هو مؤكد لحد الآن أنه لا الإسلاميون ولا العلمانيون ولا العرب ...الخ مستفيدون مما يسمى " الثورات العربية ". المستفيدون من هذه " الثورات المزعومة " يوجدون في مكان آخر حيث تقف على طرفي النقيض الولايات المتحدة بجانب حلفائها أمام الصين وروسيا والقوى الصاعدة.
ما هي السيناريوهات المقبلة لما بعد الثورات العربية ؟
-  فيما يتعلق بالسيناريوهات، أنطلق من المربع الذي أشرت إليه قبل قليل: الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند والبرازيل ... الخ، فبعد كل هذه الشطحات التي بدأت منذ ما يزيد عن السنة وقد تستمر شهورا أخرى، بعد كل هذا فإن السيناريو الأقوى والأكثر احتمالا هو حصول حرب عالمية سريعة جدا تنتهي بسقوط هيمنة الولايات المتحدة وكيان إسرائيل وانتظام العالم في أفق آخر قد تنتفي فيه أحادية الهيمنة الأحادية على العالم، وهذا سيكون له تأثير مباشر على شكل السيناريوهات الممكنة في العالم العربي.

ليست هناك تعليقات:

المتابعون

من أنا