" حينما
بلغ زرادشت الثلاثين سنة من عمره، غادر وطنه وبحيرة وطنه وذهب إلى الجبل. هناك
استمتع بروحه وعزلته ... وذات صباح، بعد أن استفاق في الفجر، تقدم أمام الشمس
وخاطبها قائلا: " يا أيتها الشمس العظيمة! ماذا ستكون سعادتك إن لم تكن هناك
تلك الأشياء التي تضيئينها؟ منذ عشر سنوات وأنت تأتي إلى كهفي: يبدو أنك تعبت من
ضوئك ومن هذا الطريق ... انظري! قد تعبت من حكمتي، تماما كالنحلة التي أكثرت من
جمع العسل. إنني في حاجة ماسة إلى الأيادي التي تمتد. أريد أن أعطي وأوزع ...
باركي لي إذن، بعين هادئة... باركي الكأس الذي يريد أن يفيض ماء ذهبيا ينسكب كله ...
انعكاس فرحتك!...
نزل زرادشت وحيدا من الجبال ... وجد أمامه فجأة،
شيخا راهبا ... توجه بالحديث إلى زرادشت قائلا: ... كنت تحمل معك بعض الرماد من
الغابة؛ أتريد اليوم حمل نارك إلى السهل؟ ألا تخاف من عقاب مجرمي الحرائق؟ ... كنت
في عزلتك كما لو أنك في البحر الذي يحملك، وتريد إذن أن تنزل إلى اليابسة؟ بئسا
لك، تريد من جديد أن تمرغ جسدك مجددا في الأرض؟
أجاب زرادشت: " أحب البشر ".
" قال الحكيم، لماذا إذن ذهبت إلى الغابة والعزلة؟
أليس لأنني أحب البشر أكثر؟ أنا الآن أحب الإله: لم أعد أحب البشر نهائيا. الإنسان
بالنسبة لي شيء كثير النقصان... ".
فأجاب زرادشت: ما تحدثت عن الحب! سأخبر البشر
بأمر جديد.".
" قال القديس لا تعطيهم شيئا، بل أنزع عنهم
ما لديهم وساعدهم على حمله، لا شيء أفضل لهم من ذلك: عل هذا يسعدك أنت أيضا! وإذا
كنت ستعطيهم شيئا، فلا تعطيهم سوى صدقة...!
كلا أجاب
زرادشت، أنا لا أعطي الصدقة ... وماذا يفعل القديس في الغابة؟ تساءل زرادشت.
أجاب القديس: " إنني أؤلف أناشيد وأغنيها،
وحينما أؤلفها، أضحك وأبكي وأتمتم: هكذا أشكر الإله، بالأناشيد والبكاء والضحك
والتمتمة... ثم ما هو هذا الأمر الجديد الذي أتيت به أنت لنا؟
حينما سمع زرادشت هذه الكلمات، حي القديس وقال
له: " ماذا عساي أن آت به لكم؟ ... وهكذا افترقا... يضحكان ......
حينما وصل
زرادشت... رأى مجموعة كبيرة من الناس مجتمعة...: لأن راقصا على الحبل سيأتي. فتوجه
زرادشت للجميع بحديثه:
أخبركم بمجيء الإنسان الأعلى. الإنسان هو شيء
ينبغي تجاوزه. ماذا فعلتم لتجاوزه؟ كل الأحياء ابتكروا لحد الآن شيئا أرقى منهم،
وأنتم تريدون أن تكونوا انعكاسا لهذه الموجة الكبيرة والعودة بالأحرى إلى الدابة
بدل تجاوز الإنسان؟ ماذا يكون القرد بالنسبة للإنسان؟ أمرا تافها وعارا أليما. قد
قطعتم الطريق من الدودة إلى الإنسان وبقي فيكم الكثير من دود الأرض. كنتم فيما قبل
قردة وأنتم الآن أكثر قرديه من القرد نفسه. لكن أكثركم حكمة ليس سوى شيئا متأرجحا،
بذرة مكونة من النبات والشبح. هل طلبت منكم أن تكونوا شبحا أو نباتا؟ انظروا، إنني
أخبركم بمجيء الإنسان الأعلى! الإنسان الأعلى هو معنى الأرض. فلتقل
إرادتكم: ليكن الإنسان الأعلى معنى الأرض. أدعوكم إخواني أن تظلوا أوفياء للأرض
ولا تصدقوا هؤلاء الذين يحدثونكم عن الآمال الغيبية! إنهم مسممون، سواء أخفوا
ذلك أم لا. إنهم محتقرون للحياة، إنهم محتضرون ومسممون هم أيضا، تعبت الأرض
من هؤلاء: فليرحلوا إذن! فيما قبل، كان شاتموا الإله أعظم مقترفي الكبيرة، غير أن
الإله قد مات ومات معه شاتموه. ما هو فظيع اليوم هو شتم الأرض وتعظيم أحشاء ذاك
المتمنع أكثر من تعظيم الأرض! أذكر أن الروح كانت تنظر إلى الجسد باحتقار، ولا شيء
كان أسمى من هذا الاحتقار: كانت تريده ضعيفا وذميما وجائعا! بهذه الطريقة كانت
تعتقد الهروب منه ومن الأرض! آه! قد كانت هذه الروح أكثر هزالا وذماما وجوعا:
كان الألم عندهم متعة! لكن أنتم أيضا إخواني، حدثوني، ماذا يقول جسدكم وماذا تقول روحكم؟
أليست روحكم فقرا وزبالا وبؤسا راضيا بنفسه؟ في الحقيقة، الإنسان نهر قذر. ينبغي
أن يكون محيطا كي يستطيع، دونما أن يتسخ، أن يستقبل نهرا قذرا. ها أنا ذا أخبركم بمجيء
الإنسان الأعلى: إنه ذلك المحيط، فيه يستطيع تشوهكم أن يذوب."
هكذا تكلم زرادشت (فريدريك نيتشه) ترجمة أحمد الطريبق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق