سارع إلى عزلتك، يا صديقي، فقد أورثك الصداع صخب عظماء الرجال، وآلمتك وخزات صغارهم. إن جلال الصمت يسود الغاب والصخور أمامك، فعد كما كنت شبيها بالدوحة التي تحب، الدوحة الوارفة الظل، المشرفة على البحر مصغية في صمتها إلى هديره.
على أطراف حقول العزلة تبدأ حدود الميادين حيث يصخب كبار الممثلين ويطن الذباب المسموم. لا قيمة لخير الأشياء في العالم إن لم يكن لها من يمثلها، والشعب يدعو ممثليه رجالا عظاما، إنه يسيئ فهم العظمة المبدعة. فيبتدع من نفسه المعاني التي يجعل بها ممثليه والقائمين بالأدوار الكبرى على مسرح الحياة.
إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السنن الجديدة. وحول لاعبي الأدوار على مسرح الحياة يدور الشعب وتدور الأمجاد، وعلى هذه الوتيرة يسير العالم.
إن للاعب الأدوار ذكاءه، ولكنه لا يدرك حقيقة هذا الذكاء لانصباب عقيدته إلى كل طريقة توصله لخير النتائج وإلى كل أمر يدفع بالناس إلى وضع ثقتهم به. غدا سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة، وبعد غد سيستبدل بها أجد منها. ففكرته تشبه الشعب تذبذبا وتوقدا وتقلبا.
إن ممثل الشعب يرى في التحطيم برهانه، وفي إيقاد النار حجته، وفي إراقة الدماء أفضل حجة وأقوى دليل. إنه ليعتبر هباء كل حقيقة لا تسمعها إلا الآذان المرهفة، فهو عبد الآلهة الصاخبة في الحياة.
إن ميدان الجماهير يغص بالغوغاء المهرجين، والشعب يفاخر بعظماء رجاله فهم أسياد الساعة في نظره. ولكن الساعة تتطلب السرعة من هؤلاء الأسياد، فهم يزحمونك يا أخي، طالبين منك إعلان رفضك أو قبولك، والويل لك إذا وقفت حائرا بين " نعم " وبين " لا ".
وإذا كنت عاشقا للحقيقة فلا يغرنك أصحاب العقول الرعناء المتصلبة، وما كانت الحقيقة لتستند يوما إلى ذراع أحد هؤلاء المتصلبين.
دع المشاغبين وارجع إلى مقرك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدد سلامتك بين خنوع " نعم " وتمرد " لا ". إن تجمع المياه في الينابيع لا يتم إلا ببطء، وقد تمر أزمان قبل أن تدرك المجاري ما استقر في أغوارها.
لا تقوم عظمة إلا بعيدا عن ميدان الجماهير وبعيدا عن الأمجاد، وقد انتحى الأماكن القصية عنها من أبدعوا السنن الجديدة في كل زمان.
اهرب، يا صديقي، إلى عزلتك. لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك والأدنياء. لا تقف حيث يصيبك انتقامهم الدساس وقد أصبح كل همهم أن ينتقموا منك. لا ترفع يدك عليهم فإن عددهم لا يحصى، وما قدر عليك أن تكون صيادا للحشرات. إنهم لصغار أدنياء ولكنهم كثر. ولكم أسقطت قطرات المطر وطفيليات الأعشاب من صروح شامخات. ما أنت بالصخرة الصلدة ولشد ما فعلت بك القطرات، لسوف يتوالى ارتشافها عليك فتصدعك وتحطمك تحطيما.
لقد أرهقتك الحشرات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء، وأنت تتحصن بكبرك لتكظم غيظك، وهي تود لو أنها تمتص كل دمك معتبرة أن من حقها أن تفعل ذلك لأن دمها الضعيف يطلب دما ليتقوى، فهي لا ترى جناحا عليها إذ تنشب حمتها في جلدك. إن هذه الجروح الصغيرة لتذهب بالألم إلى مدى بعيد في حسك المرهف، فتتدفق صديدا يرتعيه الدود. أراك تتعالى عن أن تمد يدك لقتل هذه الحشرات الجائعة، فحاذر أن يجول سم استبدادها في دمك.
إن هؤلاء المشاغبين يدورون حولك بطنين الذباب، فهم يرفعون أناشيدهم تزلفا إليك ليتحكموا في جلدك ودمك. إنهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنوا الآلهة والشياطين، فيحتالون عليك بالملاطفة والثناء، وما يحتال غير الجبناء.
إنهم يفكرون بك كثيرا في سرهم فيلقون الشكوك عليك، وكل من يفكر الناس به كثيرا تحوم حوله الشبهات.
إنهم يعاقبونك على كل فضيلة فيك ولا يغتفرون لك من صميم فؤادهم إلا ما ترتكب من الخطأ. إنك لكريم وعادل، لذلك تقول في قلبك: إن هؤلاء الناس أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة. ولكن نفوسهم الضيقة تقول في نجواها: إن كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة. ويشعر هؤلاء الناس بأنك تحتقرهم عندما تشملهم بعطفك، فيبادلونك عطفك بالسيئات. إنك لتصدعهم بفضيلتك الصامتة فلا يفرحون إلا عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غرورا. إن الناس يطمحون بالطبع إلى تأجيج كل عاطفة تبدوا لهم، فاحذر الصعاليك لأنهم يحسون بتفاهتهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم كرها وانتقاما.
أفما شعرت أنهم يخرسون عندما تطلع عليهم، فتبارحهم قواهم كما يبرح الدخان النار إذا اهمدت ؟
أجل يا صديقي، ما أنت إلا تبكيت في ضمائر أبناء جلدتك لأنهم ليسوا أهلا لك، فهم لذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك.
إن أبناء جلدتك لن يبرحوا كالحشرات المسمومة لأن العظمة فيك ستزيد أبدا في كرههم لك.
إلى عزلتك، يا صديقي، إلى الأعالي حيث تهب رصينات الرياح، فإنك لم تخلق لتكون صيادا للحشرات. هكذا تكلم زرادشت.
ترجمة: الدكتور أحمد الطريبق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق